بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (25)

ثم قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } أي غنى ، يقول : من لم يجد منكم سعة في المال { أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } يعني الحرائر ، فليتزوج الإماء فذلك قوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم } من الإماء . ويقال : { من لم يستطع منكم طولاً } ، يعني من لم يكن له منكم مقدرة على الحرة ، فليتزوج الأمة ، يعني : إذا لم يكن له امرأة حرة . وقد قال بعض الناس : إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة ، لا يجوز أن يتزوج الأمة . وفي قول علمائنا : يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة ، لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر ، لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ، ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل . ثم قال : تعالى { مّن فتياتكم المؤمنات } يعني يتزوج الأمة المسلمة . وقال بعض الناس : لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية ، لأن الله تعالى قال { مّن فتياتكم المؤمنات } . وفي قول علمائنا : يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية ، وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها ، وهذا بمنزلة قوله

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز ، ولكن الأفضل أن لا يتزوج ، فكذلك ها هنا الأفضل أن يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز .

ثم قال تعالى : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ } يقول : والله أعلم بإيمانكم في الحقيقة ، وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن . وقال مقاتل : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناه فما ملكت أيمانكم { بعضكم من بعض } يعني يتزوج هذا وليدة هذا ، وهذا وليدة هذا . ثم قال : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } من غيره . ويقال : معناه والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ، يعني بعضكم من بعض في النسب ، يعني محلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم . ويقال : دينكم واحد أي بعضكم على دين بعض . ثم قال تعالى : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } يعني الولاية بإذن أربابهن { وآتوهن أجورهن بالمعروف } يقول : أعطوهن مهورهن بالمعروف ، يعني بإذن أهلهن ، لأنه إذا أعطى الأمة مهرها بغير إذن مولاها واستهلكت ، ضمن الزوج للمولى . ويقال : مهراً غير مهر البغي ، يعني بعدما أطلق ذلك . ثم قال : { محصنات } أي عفائف { غَيْرَ مسافحات } أي زواني ، ويقال : غير معلنات بالزنى { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني أخلاء في السر ، لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية ، ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخداناً يعني أخلاء في السر ، ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعاً . فقال : تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر . قرأ الكسائي : { محصنات } بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله { والمحصنات مِنَ النساء } وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب .

ثم قال تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } يعني أسلمن . ويقال : إذا أعففن . قرأ عاصم وحمزة والكسائي : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } بالنصب . وقرأ الباقون بالضم . وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب ، ومعناه إذا أسلمن . وقرأ ابن عباس بالضم ، يعني أحصن بالأزواج . { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } يعني الزنى { فَعَلَيْهِنَّ } أي وجب عليهن { نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } يعني إذا زنت الأمة فحدّها نصف حدّ الحرة ، خمسون جلدة . والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر ، فجعل عقوبتهن أقل . ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن . ويقال : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم { يا نساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } [ سورة الأحزاب : 30 ] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد ، فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى .

وذكر في الآية حدّ الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد ، ولكن حد العبيد والإماء سواء ، خمسون جلدة في الزنى ، وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة ، لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق ، وذلك في العبد موجود . وروي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قالا : حدّ العبد نصف حد الحر .

ثم قال تعالى : { ذلك } يعني هذا الذي ذكر في الآية ، وهو رخصة نكاح الأمة { لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ } يعني الإثم في دينه . ويقال : الزنى والفجور . قال القتبي : أصله المضرور الإفساد . قال تعالى { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الإماء { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تزوجهن ، لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبداً . وروي عن عمر أنه قال : أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه ، أي يصير ولده رقيقاً ، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده . وقال مجاهد : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } يقول : وإن تصبروا على نكاح الأمة خير لكم من أن تقعوا في الفجور . { والله غَفُورٌ } لما أصبتم منهن قبل تحليله { رَّحِيمٌ } حين رخص في نكاح الإماء . ويقال : { رحيم } إذ لم يعجل العقوبة .