ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح ، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء ؛ فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا حكم من استطاع نكاح حرة : { ومن لم يستطع منكم } أي أيها المؤمنون { طولاً } أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال{[20954]} ، لا ثبات له ، وهنا بالطول الذي معناه : التي قل من يجدها { أن } أي لأن{[20955]} { ينكح المحصنات } أي الحرائر ، فإن الحرة مظنة العفة{[20956]} الجاعلة{[20957]} لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد ، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ{[20958]} أنفسهن عن أن يكن كالإماء { المؤمنات } بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر { فمن } أي فلينكح إن أراد من{[20959]} { ما ملكت أيمانكم } أي مما ملك غيركم من المؤمنين { من فتياتكم } أي إمائكم ، وأطلقت الفتوة - وهي الشباب - على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً{[20960]} ، ثم وضح المراد بالإضافة فقال : { المؤمنات } أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما{[20961]} ملكتم من الإماء الكافرات{[20962]} ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة{[20963]} خوفاً من الفتنة - كما مضى في البقرة ، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً{[20964]} لكافر ، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا : إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له ، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد{[20965]} مسلمة ، حرة كانت أو أمة ، ولم يشترط ذلك ؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية ، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة{[20966]} ، فكأن هذه سورة{[20967]} المواصلة ، أسقط فيها أهل المباعدة ، والمائدة سورة تمام الدين ، فذكر فيها ما يجوز لأهله{[20968]} فلا ضرر في القيد ، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك ، وهذا كما أن قيد الإحصان{[20969]} هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور{[20970]}{ وانكحوا الأيامى منكم{[20971]} }[ النور : 32 ] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان ، وعبر فيه بالوصف ، وكان أمراً قلبياً ، لا يطلع على حقيقته إلا الله ؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال : { والله } أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات { أعلم بإيمانكم } فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه ، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين " فاظفر بذات الدين ، تربت يداك ! " . ولما اشترط الدين كان{[20972]} كأنه قيل : فالنسب ؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله : { بعضكم من بعض } أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده { فانكحوهن } أي بشرط العجز{[20973]} { بإذن أهلهن } أي من{[20974]} مواليهن{[20975]} ، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم{[20976]} .
ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة{[20977]} مالك للمنفعة{[20978]} من باب الأولى {[20979]}كان الأمر{[20980]} بدفع المهور إليهن{[20981]} مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها ، فلذلك قال تعالى : { وآتوهن أجورهن } وهي المهور { بالمعروف } أي من غير ضرار{[20982]} ، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن ، حال كونهن { محصنات } أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن { غير مسافحات } أي مجاهرات بالزنى لمن أراد ، لا لشخص معين { ولا متخذات أخدان } أي أخلاء{[20983]} في السر للزنى معينين ، {[20984]}لا تعدو ذات{[20985]} الخدن خدنها إلى غيره ؛ قال الأصبهاني : وهو{[20986]} - أي الخدن{[20987]} - الذي يكون معك{[20988]} في كل ظاهر وباطن .
ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له{[20989]} : { فإذا أحصن } مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم ، والمفعول في قراءة الباقين ، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى ، أو حفظهن{[20990]} الموالي بالرضى لهن بالعفة ؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه : إن معنى{[20991]} ( أحصن ) هنا : أسلمن ، لا نكحن فاصبن بالنكاح ، ولا أعتقن وإن لم يصبن ، وقال : فإن قال قائل : أراك{[20992]} توقع الإحصان{[20993]} على معان مختلفة ؟ قيل : نعم ، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم ، فالإسلام مانع ، وكذلك الحرية مانعة ، وكذلك التزوج والإصابة{[20994]} مانع{[20995]} وكذلك الحبس في البيوت مانع ، وكل {[20996]}ما منع{[20997]} أحصن ، وقد قال الله عز وجل{ وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم{[20998]} }[ الأنبياء : 80 ] وقال :{ لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة{[20999]} }[ الحشر : 41 ] يعني مممنوعة ، قال : وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام{[21000]} في موضع دون غيره ، إذ{[21001]} الإحصان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف ، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان - انتهى . { فإن أتين بفاحشة } ولا تكون{[21002]} حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه .
ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد ، فغلظ{[21003]} في الحرائر بالرجم ؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء ، بل حدهن بعده هو حدهن قبله ، فقال { فعليهن نصف ما على المحصنات } أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج { من العذاب } أي الحد - كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان ، وهذا يفهمه بطريق الأولى ، والمراد هنا الجلد ، لأن الرجم لا ينتصف .
ولما كان كأنه قيل : هل هذا لكل{[21004]} عاجز عن الحرة ؟ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه : { ذلك } أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه { لمن خشي العنت } أي {[21005]}الوقوع في{[21006]} الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلى{[21007]} النكاح ومشقة الصبر عنه ؛ قالوا : وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة وضرر ؛ قال الأصبهاني : وقيل : إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان{[21008]} إلى الأمراض الشدية ، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم ، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع{[21009]} الوركين والظهر .
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا{[21010]} قيد بقوله : { منكم } .
ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال : { وإن تصبروا } أي عن نكاحهن متعففين { خير لكم } أي لئلا تعيروا بهن ، أو تسترق أولادكم منهن ، ثم أتبع ذلك بتأكيده{[21011]} لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج{[21012]} فقال : { والله } أي الذي له الجلال والإكرام { غفور } أي لمن {[21013]}لم يصبر{[21014]} ، والمغفرة{[21015]} تشير إلى نوع تقصير { رحيم * } أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما{[21016]} يتبع ذلك من المحذور .