تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (25)

الآية 25 وقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت إيمانكم } وقال عز وجل : ( في الآية نفسها ) {[5299]} : { لمن خشى العنت منكم } فقال بعض أهل العلم : لا يجوز تزوج الأمة حتى يعجز عن نكاح الحرة ، ويخشى مع ذلك العنت . فإذا اجتمع الأمران فحينئذ يجوز أن يتزوج الأمة . ولا يجوز أن يكون تأويل الآية في هذا وذلك أن الإماء أعز وجودا اليوم من الحرائر ، ويجد الرجل حرة يتزوجها بأدنى شيء ما لم يجد بمثله الأمة لا أن يقال : الإماء في ذلك الزمان أوجد وإن الحرائر عز وإن مؤنة الإماء ومهورهن أقل فخرج الخطاب على ذلك .

وإنه لما نزل قوله سبحانه وتعالى : ب : وأنكحوا اليماني منكم والصالحين من عبادتكم وإمائكم } ( النور 32 ) رغب السادات في تزوج{[5300]} الإماء بشيء يسير فعند ذلك نزل قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا } الآية وإلا الأمر الظاهر ما ذكرنا أنهن أعز وجودا من الحرائر وأكثر مؤنة وان الحرائر أهون وجودا ومؤمنتهن أقل أو أن تكون الآية في الإنفاق عليهن ليس في ابتداء النكاح . وهو أن الرجل إذا تزوج حرة لزمه أن ينفق عليها شاء ، أو أبى . فإذا عجز عن الإنفاق عليها يطلقها ويتزوج بأمة إذ نفقة الأمة على سيدها ، ونفقة الحرة عليه ، فأمر أن يطلق الحرة التي نفقتها عليه ، ويتزوج أمة تكون نفقتها على سيدها . هذا أشبه والله أعلم بما قاله أولئك . أو أن يقال : إنه أ راد بالنكاح الوطء لا العقد والتزوج{[5301]} على ما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : ( والنكاح اسم للوطء والتزوج{[5302]} جميعا ) .

قال الله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } ( النور3 ) وتأويله : الواطئ فكذلك الأول . ومعنى قول علي رضي الله عنه حين حمل الآية على الوطء لأنه يتزوج الأمة على الحرة : كأنه منعه من ذلك أنه{[5303]} قادر على وطء الحرة ، ويتزوج الحرة على الأمة ؛ ي قول : يتزوج الأمة ، ولم يكن قادرا على وطء الحرة ، فجاز نكاحه . أو إن كانت الآية في ابتداء النكاح والتزوج{[5304]} على ما قالوا فليس فيها حظر نكاح الإماء وبطلانه في حال الطول والقدرة لأنه نكاحهن في حال عدم الطول والقدرة .

ومن أصلنا أن ليس في إباحة الشيء وحله في حال دلالة حظره ومنعه في حال أخرى دليله قوله تعالى : { أزواجك التي آتيت أجورهن } ( الأحزاب 50 ليس فيه أنه لا يحل له إذا لم يؤت أجورهن وقوله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم } ( النساء 3 ) ليس فيه حظر الأربع وغن خاف ألا يعدل فهذا يدل على أن حظر الشيء ومنعه ( في حال ){[5305]} لا يوجب الحظر في حال أخرى وإباحة الشيء في حال وحلة لا يوجب منعه وحرمته في حال أخرى .

على أن المخالفة لما لم يجعل الإيمان المذكور في الآية شرطا لقوله تعالى : { أن ينكح المحصنات المؤمنات } فإذا لم يصر الإيمان شركا في حال نكاح الإماء كيف صار الطول والقدرة شرطا فيه ؟ إذ من قوله ليس له أن ينكح الأمة إذا كان له طول نكاح المحصنة الكتابية لانه يقول : لأن الله تعالى فيهن الإيمان بقوله { من فتياتكم المؤمنات } فإذا لم يصر الإيمان شرطا في المحصنات كيف كان شرطا في الإماء ؟ وذلك كله عندنا ليس بشرط .

فإن قال قائل : إن قول الله تعالى { فمن لم يستطع فإطعام } ( المجادلة 4 ) كذا ليس ذلك شرطا حتى لا يجوز غيره إذا كان له طول العتاق وقدرة الصوم ما ينكر أن يكون الأول فبمثله قيل صار ذلك شرطا فيه لأنه فرض لزمه بشريطة لم يكن له الخروج والتعدي إلى غيره .

وأما النكاح فليس هو بفرض لزمه بوجود الطول والقدرة والعتاق وما ذكر فرض لزمه بوجود الطول والقدرة عليه ويجوز الطعام لكن لم يسقط الفرض الذي لزمه عنه لذلك صار شرطا فيه والأول لم يصر .

فغن قال : ما معنى الآية إذن ؟ قيل : معنى الآية على الاختيار والأدب ، او على الإنفاق الذي ذكرنا أو ألا يختار نكاح الأمة على نكاح الحرة إذا كان له طول الحرة على ما جاء عن عمر رضي الله عنه ( أنه ) {[5306]} قال : ( أي ما حر تزوج فقد أرق نصفه ، وأي ما عبد تزوج فقد أعتق نصفه ، لا يختار نكاح الأمة ، وله إلى طول الحرة سبيل ) . ويجيء أن يكون قوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت منكم } ألا يحمل على الزنى ولكن يحمل على مخالطتهن الناس واسترقاق الأولاد . فإذا أمنة السيد عن استرقاق الولد وعن ترك الاختلاط بالناس ، فعند ذلك يتزوجها ؛ إذ قلوب الناس لا تحتمل اختلاط أزواجهن بالناس واسترقاق الأولاد ، فحمل العنت على هذا أسبه من الزنى .

ومن الدليل أيضا على ألا يعتبر الطول على التزوج على ما قالوا : إذا تزوج أمة ، ثم قدر على تزوج الحرة لم يفسد نكاح الأمة ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه فعلى ذلك طوله في الابتداء على نكاح الحرة لا يمنع جواز نكاح الأمة ، والله أعلم على ان عدم الطول في الأصل لا يمنع نكاح الحرة إذ شيء يلزم الذمة ، وعدم النفقة يمنع الإمساك عنده . فدل أن الآية لعدم نفقة الحرة في الابتداء على ما ذكرنا .

والأصل إن كان أمر يجوز بشرط الاضطرار فإن ارتفاع الضرورة يمنع البقاء . فإذا لم يمنع بان أنه لا على الحل بالضرورة وعلى ذلك يختار لمن تحته حرة مفارقة الأمة ؛ إذ بإمساكها رق لاولد الذي يقبح في العقل اختياره ومخالطة الزوجة في الطبع نفارا منه فمثله في الابتداء ، والله اعلم مع ما قال الله تعالى : { وأن تصبروا خير لكم } وليس عن الذي فيه الضرورة شرط الصبر . ثم القول واحد فيهن بملك المال ، وهو غائب عنه ، يخشى العنت إلى أن يبلغ ذلك أنه لا يمنع النكاح وجميع ما له الحرمة يستوي غيبه / 89- ب / ذلك وحضرته كنكاح الأمة على الحرة والأخت على الأخت ونحو ذلك مع ما لو كانت خشية العنت تصير سببا للحل في شيء لكان ملك الحرة التي هي عنه غائبة إذا لم تصر الضرورة مبيحة . فإذن لان ان الحرمة لنفس النكاح في الوجود ، والحل لعدمه لا للسبيل على ذلك وغير السبيل .

ثم قوله عز وجل : { ذلك لمن خشي العنت } إنما هو الضيق كقوله : ولو شاء الله لأعنتكم } ( البقرة 220 ) أي يضيق عليكم مخالطة الأيتام أو الإثم وكقوله{[5307]} سبحانه وتعالى : { عزيز عليه ما عنتم } ( التوبة 128 ) وكل رجل فيه وسع الاستمتاع فهو يخشى الإثم فيجيء أن يباح له على كل حال أو يرجع إلى الضيق ، فيكون المقصود منه الإمساك دون العقد والله أعلم .

ثم خشية الزنى ان يحتمل أن يصير شرطا للحل ، وقد حصل له عقوبة ، فيها أبلغ الزجر لمن غفل عن رجم أو حد ، بل يقرض عليه إبقاء ذلك بكل وجوه الإمكان . ومعلوم أن الله قد جعل عنه بغير النكاح سبيلا في الامتناع أيضا .

وقد جاء أيضا الأمر بالصيام بأنه{[5308]} لو وجاء ، فغنما خشية ذلك خشية خطر لا حقيقة فلم يجز أن يجعل عذرا لرفع الحرمات ويقدر عليه بالمباح من الصيام .

القول في قوله : { ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات } الآية : نقول ، وبالله التوفيق ، تحتمل الآية وجوها :

أحدهما : طول عقد النكاح مذكور أيضا في نكاح الأمة ب قوله : { وآتوهن أجورهم بالمعروف } ومعلوم وجود الحرة بالمهر الذي يوصف في المعروف من المهور ، بل لعل ذلك في الحرائر أوجد ؛ إذ قد جاز نكاح الحرائر بالأشياء الضعيفة . ومعروف وجودهن في كل عصر بدون ما يوجد ( في مثله ) {[5309]} الإماء فمحال أن يشترط في نكاح الإماء عدم ما لا يوجد السبيل إليه إلا بوجود ذلك أو ما هو أعظم في الوجود .

وأما النفقة والمسكن فقد يكون بمال السيد دون ان يؤخذ به وفي الحرة هي لا سبيل إليها إلا بمال الزوج ففيها يذكر الوجود لا في ما يستوي الذكر فيه في المتلو . ثم في الحاجة على ما عليه العرف فيه فضل . ولا قوة إلا بالله .

والوجه الثاني : ما وري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : " لا تنكح الأمة على الحرة " ( البيهيقي في الكبرى 7/175 ) ولو كان يجوز نكاحها عند وجود طول الحرة لم يكن للنهي عن ذلك بعد النكاح وجه ؛ إذ ليس لذلك وجود لما الطول يمنع وجوده .

والثالث : أن الذي به يجب النكاح ليس للوجود شرط فيه ، والذي به الإمساك شرط ، غذ قد يجوز بذمة من لا يملك ولا يمسك ثبت أن ذلك في حق الإمساك . وبعد لو كان يمنع بالذي ذكر لكان جوازه بحق الضرورة ، وهذا مما لا يقع بالضرورة{[5310]} ثبت أن ذلك في حق الإمساك .

ثم لو كان التاويل على النكاح لم يكن في ذلك تحريم النكاح على وجود طول الحرة لخصال{[5311]} :

إحداهما : أن ذلك يوجب أن يكون نكاح الإماء يجوز بحق الإبدال والاضطرار . وذلك لا يحتمل حق النكاح لوجوه :

أحدها أن طريق ذلك إباحة ورخص والفروج لا تحتمل الإباحات بل الأباحات توجب حد المبيح وعقوبته ، وتجعل كمبيح ما لا يملكه .

والثاني : ان الحرمات التي كانت في جميع النكاح كانت ظاهرة لم يرفع شيء منها لحاجات ، وكذلك نكاح الإماء لو كان من المحرمات . بل الحكم أن كل امرأة لا تحتمل ( النكاح ) {[5312]} فهي لا تحل بملك اليمين . فلو قلنا : إنه لا يحل نكاحها لذاتها لم تحل في ملك اليمين فأدخلت بما{[5313]} ذكرت ، وليس كالزيادة على الأربع ، لأن ملك الحرمة لحق المنكوحة لا لمكان المرأة ، وكذلك الأخت ونحو ذلك . دليل ذلك جواز ذلك لا بحق الإبدال والاضطرار إذا عدم نكاح غيره بعد وفاته لم يجعل في شيء من الحل والحرمة المال ، بل قال الله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا } الآية ( النور 33 ) صبرا لعدم شرط الترك ، وله قد يسفح لأنه شرط الإباحة ، فذلك أمر نكاح الإماء .

والثالث : أن الأصل في الإضافة الحل والحرمة على أنه لا يوجب عند ذلك في غير ملك الحال بل هو في غيرها على قيام الدليل من ذلك المضاف غليه او غيره ، لا انه يوجب ذلك . أمور النكاح . قال الله تعالى لنبيه : { إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن } ( الأحزاب 50 ) لا أنه يعلم لو لم يؤتهن الأجور لم يحللن ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهم } ( المائدة 5 ) .

وقال عز وجل : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة } الآية لأن الحد لا يجب لو لم يحصن وقال : عز وجل : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } لا على جعل الإيمان شرطا ، وقال الله عز وجل : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ( النساء 3 ) لأن الأمة لا تحل إذا لم يخف العدل في الحرائر وغير ذلك مما يكثر إذ ليس في إضافة الحل إلى حال قطعة من غيره . فمثله أمر النكاح في ما نحن فيه .

ثم احتج بالآيات التي فيها : { ومن لم يستطع } ( النساء 25 و… ) و{ فمن لم يجد } ( البقرة 196 و… ) لتوجيه ذلك الحق ههنا . ودخل جواب هذا ما قلنا : إن الحكم في غيره موقوفا على الدليل فيه منعنا لا بهذا مع ما بينا دليل ما نحن فيه ليس بشرط .

ألا ترى انه ذ=كر شرط الإيمان في المحصنات وما{[5314]} لم يصر وقد صار في الكفارات ونحو ذلك فمثله ما نحن فيه ؟ ثن الفصل بين الأمرين يقع ( من ) {[5315]} وجوه :

احدهما : أن تلك بحق الإبدال والاضطرار دليله زوال حكمه عند الارتفاع وفي هذا إلا أن يرتفع لنكاح الحرة ، فلذلك اختلف الأمران . ولو جعلنا الأمر به أو الإشارة بالحل إليها على النهي عن ذلك نهيا عن نكاح الإماء في حال طول الحرائر . فلا يحتمل ان يكون النهي مبطلا للفعل لأوجه :

أحدهما : أن يرق ولده .

والثاني : أن تخالط امرأته الرجال وذلك بعض ما يشين الرجل ثم كان نكاح الزانية مع النهي عن ذلك . ويجوز مع الأمر بطلاقها . ومعلوم أن ذلك أعظم في الشين إذ قد ظهر به ما يخافه في المملوكة ويصير ولده مشتوما أمامه ، وهو أوحش في العقول من كل رق وعبودة ، ويقال له : يا ابن الزانية ، وذلك أيضا تلبيس النسب وشبهته{[5316]} ثم لم يجب به الفساد . فامر المملوكة الأحرى .

والثاني{[5317]} : لم يختلف على نهي الحرمة عن نكاح العبيد ، ولم يفرق الأولياء ويصرف حق نسب الآباء إلى الموالي . إذ معلوم أن الطعن عليهن في الخلاف أقبح منه عليهم ثم ل م يمنع ذلك جواز النكاح ، فمثله ما نحن فيه .

والثالت{[5318]} : ان الحرمة على وجهين : حرمة النفس المنكوحة للاستمتاع{[5319]} وحرمة لحق النكاح . وكل محرمة لذاتها : فهي لا تحل بملك اليمين ولا بملك النكاح ، وما كانت الحرمة بحق{[5320]} النكاح تحل . فإذا كانت الأمة تحل بملك اليمين ثبت أن حرمتها ليست لنفسها ولا للاستمتاع فهي تحل بملك اليمين بل حلها في الأصل بملك النكاح أحق إذ ليس إلا للاستمتاع . فإذا حلت به فبالأحرى أن تحل بالنكاح . ثم قد يحرم النكاح الخاص ، لا يجاز من الأموال بحل . فكذا ما نحن فيه .

وقوله تعالى : { والله أعلم بإيمانكم } يحتمل وجهين يحتمل والله أعلم حقيقة ذلك ( ويحتمل ما ) {[5321]} فيه لزوم العمل بالظاهر .

وقوله تعالى : { بعضكم من بعض } يحتمل { بعضكم من بعض } في الدين ويحتمل { بعضكم من } نسب { بعض } فهذا يدل على نسب / 90 –أ/ بعضهم من دين بعض ومن نسب بعض ، فليس لبعض على بعض فضل من الدين والنسب إذا نسبهم ودينهم واحد ، وليس للحرة على الأمة فضل من هذا الوجه .

وفي قوله : { فإذ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصن من العذاب } لأنها إذا كانت على غير هذا الوصف لزمها ذلك الحكم دل ان وجوب الحكم في حال على وصف لا يمنع وجوب ذلك الحكم في حال أخرى على غير الوصف الذي وصف في تلك الحال . وهذا بالمخالف لنا ألزم لأنه قال عز وجل : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة } ( البقرة 221 ) إن النهي وقع على جميع المشركات كتابيات وغير كتابيات . ثم صار ( نهي الكتابيات منسوخا ) {[5322]} بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ( المائدة 5 .

ثم قال : إذا كان طول محصنة كتابية لم يحل له نكاح الأمة له نكاح الأمة المؤمنة . واخبر عز وجل أن الأمة المؤمنة خير من مشركة ، وهو يقول : بل المشركة خير من الأمة ، فهذا يدل على اضطراره في قوله على مذهبنا ما قلنا .

وقوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } الآية ( البقرة 221 ) المشركات خاصة من غير الكتابيات عندنا ؛ دليله قوله تعالى : { ما يود الذين كفروا من اهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } ( القرة 105 ) ذكر المشركات وذكر الكتابيات دل هذا ان المشركات في هذه الآية غير الكتابيات . وقد ذكرنا الوجه في صدر السورة ما يغ ني ( عن ) {[5323]} ذكره في هذا الموضع . فإذا كان ما ذكرنا أن يتزوج كتابية محصنة كانت أو أمة . وقد اقمنا الدليل على أنه{[5324]} ليس في ذكر الإيمان فيهن دليل جعله شرطا في جواز نكاحهن على ما لم يكن في ذكر الإيمان فيهن شرط .

وقوله تعالى : { والله أعلم بإيمانكم } أي هو أعلم بحقيقة إيمانهن وأنتم لا تعلمون حقيقته{[5325]} وإن كانت أثبت لنا علم الظاهر{[5326]} بقوله تعالى : { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن مؤمنات } ( الممتحنة 10 ) أمرنا بالعمل بعلم الظاهر لا بعلم الحقيقة بقوله : { الله أعلم بإيمانهن فغن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } ( الممتحنة 10 فهذا يدل على أن الإيمان هو عمل القلب لا عمل اللسان لأنه لو كان عمل اللسان لكان حقيقته كل أحد ، فظهر أنه ما وصفنا .

وقوله تعالى : { بعضكم من بعض } قيل فيه وجوه : ( قيل ) {[5327]} { بعضكم من بعض } في الولايات في الدين كقوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ( التوبة 71 ) وقيل : { بعضكم من بعض } في النسب إذ كل منهم من أولاد آدم ، ويحتمل { بعضكم من بعض } قبل الإسلام .

وقوله تعالى : { فانكحوهن بإذن أهلهن } أي بإذن ساداتهن سمى السادات أهلا لهن . دل أنهن من أهلهم . وفيه أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا أذن لها وليها لأنه تعالى قال : { بإذن أهلهن } والمرأة إذا كبرت{[5328]} لها ان تتزوج{[5329]} من غيره . وهذا في النساء أولى لأن الرجل إذا كانت له جارية يستمتع بها . ولا يزوجها{[5330]} من غيره والمرأة إذا كانت لها جارية ، هي التي احتاجت تزويج جاريتها . لذلك كان في هذا أولى . وفيه أن ليس للعبد ولا للأمة أن يتزوج إلا بإذن من سيده . وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ){[5331]} قال : " أي ما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " ( أبو داوود 2078 .

وقال بعض أهل العلم : قوله : { فانكحوهن بإذن أهليهن } إذ كن مؤمنات على ما سبق من ذكر الإيمان بقوله { من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم } لكن هذا إن{[5332]} كان نهيا عن نكاح الإماء إذا كن غير مؤمنات .

ألا ترى أن النساء قد نهين عن تزويج أنفسهن من العبيد وذلك ما يشتهين ؟ ولم يمنع ذلك النهي عن التزويج منهم . فعلى ذلك لا يمنع شرط الإيمان فيهن ، والنهي عن نكاحهن{[5333]} إذا فعل جاز ذلك النكاح . فعلى ذلك الأول وكذلك قوله تعالى : { وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } ( النور 32 ) . ذكر الصلاح فيهم . ثم إذا كانوا على غير ذلك الوصف جاز . فكذلك الأول وكذلك قوله تعالى : { محصنات غير م سافحات }ذكر الإحصان فيهن ، ثم لم يصر الإحصان فيهن شرطا في جواز النكاح لأنهن إذا كن غير محصنات يجوز نكاحهن فعلى ذلك الأول .

ولو كان الطول والقدرة مما يمنع جواز نكاح الإماء بمعنى البدل لكان إذا تزوج أمة ، ولك يكن له طول على نكاح الحرة في ذلك الوقت . قم كان الطول على نكاح الحرة يجيء أن يفسد النكاح لأنه إذا منع الابتداء يمنع القرار في ملكه فإذا لم يمنع ذل انه ليس على حكم البدل إذا الأبدال لا قرار لها ، ولا ثبات عند وجود الأصول . دل أنه ليس عليه ، ولكن على الاختيار والتأديب ألا يختار نكاح الإماء على الحرائر والمسافحات ، ولا تختار المشركات على المؤمنات فإن قيل : إنكم تمنعون{[5334]} نكاح الامة على الحرة ، ثم لا تسفحون نكاح الأمة على الحرة لحق حرمة الجمع كالجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها ( يقل ) {[5335]} فأما إذا لم يكن ثم جمع لم يمنع ، وهذا ليس بشيء .

وقوله تعالى : { وآتوهن أجورهن } بإذن أهلهن على ما ذكر في النكاح بقوله عز وجل : { فانكحوهن بإذن أهلهن }ويحتمل ان يؤتى أجرها وغن لم يأذن له مولاها إذا كانت الجارية ممن تحفظ مال سيدها وتتعاهد إذ للناس يشترون المماليك لحفظ أموالهم وصون أملاكهم نحو ما جاء من الوعيد نع رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته حتى العبد عن مال سيده ( البخاري 5118 ) فإذا كان ما وصفنا لا بأس بأن يدفع الأجر والمهر غليها إذا كانت هي ممن تحفظ ماله ، وتصونه .

ثم من الناس من استدل بقوله تعالى : { وآتوهن أجورهن } على حقيقة الملك للمماليك ويبيح لهم التمتع بالجواري وبقوله تعالى أيضا : { وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم من فضله } ( النور 32 ) لو لم يملكوهم حقيقة الملك .

وأما عندنا فإنهم لا يملكون حقيقة الملك استدلالا بقوله تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسهم هل لكم من ما م لكت إيمانكم من شركاء في ما رزقكم } ( الروم 28 ) أخبر أن ليس لهم في ما رزقهم شركاء مما ملكت إيمانهم . دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك . فإن قالوا : ليسوا{[5336]} يملكون التمتع في النكاح إذا ملكوا ما يمنع{[5337]} أيضا أن يملكوا رقاب الأشياء إذا ملكوا ؟ قيل : إن السادات لا يملكون من النكاح إذا ملكوا به بالأمس . ألا ترى أن السيدة لا تملك من غ يرها التمتع به ؟ ان ملك ذلك للعبد خاصة ، لذلك ملك التمتع في النكاح .

وقوله تعالى : { وآتوهن أجورهن } ما ذكرنا من الإذن من أهلهن ولما جعل النهي حفظ الأموال .

وقوله تعالى : { بالمعروف } قيل : مهر غير مهر البغي وقيل : هو المعلوم{[5338]} وقوله تعالى : { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } قد ذكرنا في ما تقدم وأما قوله عز وجل : { يغنيهم الله من فضله } ( النور 32 ) بغنى ساداتهم إذ مقدار ما يطمعون ويشربون مما جعل لهم الانتفاع به .

وقوله تعالى : فإذا أحصن } قيل : فإذا اسلمن وقيل : { فإذا أحصن } فإذا تزوجن . ويحتمل { فإذا أحصن } فإذا بلغن مبلغ النساء وقيل : { فإذا أحصن } ا ي عففن وتأويله والله أعلم ما تركن لتعف ولم يكرهن على البغي { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فهن{[5339]} الحرائر ؛ لان عذاب المتزوجة إذا دخل بها زوجها ارجم ولا نصف للرجم وإنما حد الأمة الجلد ، فلا يجوز أن تكون المحصنات في هذا الموضع ( موضع ذوات ) {[5340]} الأزواج ؛ لأن عذاب ذوات{[5341]} الأزواج الرجم ، ولا نصف له . دل أنه أراد بالإحصان الإسلام .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه وسعيد بن جبير وجماعة من اهل العلم أن لا حد على الأمة حتى تتزوج .

وأما عندنا فإن عليها الحد لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بجلد الأمة إذا زنت ، رضوان الله تعالى عليهم ، قالوا : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رجل عن الأمة ؛ تزني قبل أن تحصن قال : " اجلدوها{[5342]} فإن زنت فاجلدوها{[5343]} " ثم قال في الثالثة او الرابعة : " فبيعوها ولو بضفر " . ( البخاري 2232 و2233 ) هذا الخبر يدل على أن الأمة إذا زنت تجلد وإن ( لم ) {[5344]} تتزوج .

وقوله تعالى : { وان تصبروا خير لكم } أي وان تصبروا ولا تتزوجوا الإماء فهو خير لكم ، لان أولادكم يصيرون عبيدا ، فهذا يدل على ان قوله : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت إيمانكم من فتياكم المؤمنات }كله على ألا يختار لا على انه إذا فعل لا يجوز .

وقوله تعالى : { والله غفور رحيم } يحتمل وجهين ؛ يحتمل { غفور رحيم } حين كفر عنكم ما ارتكبتم في الدنيا بالعذاب الذي يقام عليكم ولم يجعل عذابكم في الآخرة غذ عذاب الآخرة اشد من عذاب الدنيا وذلك من رحمته . ويحتمل { غفور رحيم } من رحمته أن يجعل الحدود في الدنيا زواجر من العود على ارتكاب مثله من الأفعال .


[5299]:ساقطة من الأصل و م.
[5300]:في الأصل و م: تزويج.
[5301]:في الأصل و م: والتزويج.
[5302]:في الأصل و م: والتزويج.
[5303]:في الأصل و م: لأنه.
[5304]:في الأصل و م: والتزويج.
[5305]:ساقطة من الأصل و م.
[5306]:ساقطة من الأصل و م.
[5307]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[5308]:من م، في الأصل: بان.
[5309]:في الأصل و م: من مثله.
[5310]:في الأصل و م: الضرورة.
[5311]:في الأصل و م: الخصال.
[5312]:من م، ساقطة من الأصل.
[5313]:في الأصل و م: لأم ما.
[5314]:في الأصل و م: ومن
[5315]:من م، ساقطة من الأصل.
[5316]:في الأصل و م: وشبهه.
[5317]:في الأصل و م: وأيضا.
[5318]:في الأصل و م: وأيضا.
[5319]:في الأصل و م: الاستمتاع.
[5320]:في الأصل و م: بحيث.
[5321]:في الأصل و م: و.
[5322]:في الأصل و م: الكتابيات منسوخة.
[5323]:ساقطة من الأصل و م.
[5324]:في الأصل و م: أن.
[5325]:في الأصل و م حقيقة.
[5326]:في الأصل و م: الظاهرين.
[5327]:ساقطة منم الأصل و م.
[5328]:في الأصل و م: كانت.
[5329]:في الأصل و م: تزوج.
[5330]:في الأصل و م: يتزوجها.
[5331]:ساقطة من الأصل و م.
[5332]:في الأصل و م: وإن.
[5333]:في الأصل و م: نكاحها.
[5334]:أدرج بعدها في الأصل و م: على.
[5335]:ساقطة من الأصل و م.
[5336]:في الأصل و م: ليس.
[5337]:من م، في الأصل منع.
[5338]:من م في الأصل: الحلول.
[5339]:من م في الأصل: فهو.
[5340]:في الأصل و م: ذات.
[5341]:في الأصل و م: ذات.
[5342]:في الأصل و م: اجلدها.
[5343]:في الأصل و م: فاجلدها.
[5344]:من م ساقطة من الأصل.