قوله : { وَمَن لمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } الطول : الغنى والسعة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وابن زيد ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وجمهور أهل العلم . ومعنى الآية : فمن لم يستطع منكم غنى ، وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات ، فلينكح من فتياتكم المؤمنات ، يقال طال يطول طولاً في الإفضال والقدرة ، وفلان ذو طول ، أي : ذو قدرة في ماله . والطول بالضم : ضد القِصَر . وقال قتادة ، والنخعي ، وعطاء ، والثوري : إن الطول الصبر . ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة . وقال أبو حنيفة ، وهو مرويّ عن مالك : إن الطول المرأة الحرّة ، فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ، ولو كان غنياً ، وبه قال أبو يوسف ، واختاره ابن جرير ، واحتج له . والقول الأوّل هو المطابق لمعنى الآية ، ولا يخلو ما عداه عن تكلف ، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره . وقد استدلّ بقوله : { من فتياتكم المؤمنات } على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال أهل الحجاز ، وجوّزه أهل العراق ، ودخلت الفاء في قوله : { فما مَا مَلَكَتْ أيمانكم } لتضمن المبتدأ معنى الشرط .
وقوله : { من فتياتكم المؤمنات } في محل نصب على الحال ، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرّة . والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت . والمراد هنا : الأمة المملوكة للغير ، وأما أمة الإنسان نفسه ، فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها ، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها . والفتيات جمع فتاة ، والعرب تقول للمملوك فتى ، وللمملوكة فتاة . وفي الحديث الصحيح : «لا يقولنّ أحدكم عبدي ، وأمتي ، ولكن ليقل فتاي ، وفتاتي » قوله : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران ، أي : كلكم بنو آدم ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة . فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر . والجملة اعتراضية . وقوله : { بَعْضُكُم من بَعْضٍ } مبتدأ وخبر ، ومعناه : أنهم متصلون في الأنساب ؛ لأنهم جميعاً بنو آدم ، أو متصلون في الدين ؛ لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة ، وكتابهم واحد ونبيهم واحد .
والمراد بهذا : توطئة نفوس العرب ؛ لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ، ويستصغرونهم ، ويغضون منهم : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي : بإذن المالكين لهنّ ؛ لأن منافعهنّ لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له .
قوله : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } أي : أدّوا إليهنّ مهورهنّ بما هو بالمعروف في الشرع ، وقد استدل بهذا من قال : إن الأمة أحقّ بمهرها من سيدها ، وإليه ذهب مالك ، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهنّ ؛ لأن التأدية إليهنّ تأدية إلى سيدهن لكونهنّ ماله . قوله : { محصنات } أي : عفائف . وقرأ الكسائي «محصنات » بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن . قوله : { غَيْرَ مسافحات } أي : غير معلنات بالزنا . والأخدان : الأخلاء ، والخدن ، والخدين المخادن ، أي : المصاحب ، وقيل ذات الخدن : هي التي تزني سرّاً ، فهو مقابل للمسافحة وهي التي تجاهر بالزنا ، وقيل : المسافحة ، المبذولة ، وذات الخدن ، التي تزني بواحد . وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ، ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، قال الله : { وَلاَ تَقْرَبُوا الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] . قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح الهمزة ، وقرأ الباقون بضمها . والمراد بالإحصان هنا : الإسلام . روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزرّ بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والسديّ ، وروي عن عمر بن الخطاب ، بإسناد منقطع ، وهو الذي نص عليه الشافعي ، وبه قال الجمهور . وقال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : إنه التزويج . وروي عن الشافعي . فعلى القول الأوّل لا حدّ على الأمة الكافرة . وعلى القول الثاني لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج . وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها ، وعفافها . وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف ، فمن قرأ { أحصنّ } بضم الهمزة ، فمعناه التزويج ، ومن قرأ بفتح الهمزة ، فمعناه الإسلام . وقال قوم : إن الإحصان المذكور في الآية هو : التزوج ، ولكن الحدّ واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوّج بالسنة ، وبه قال الزهري . قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عزّ وجل يقتضي أنه لا حدّ على الأمة ، وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها ، وإن لم تحصن ، وكان ذلك زيادة بيان . قال القرطبي : ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد .
قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر ، والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا : التزويج ؛ لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه : { وَمَن لمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } إلى قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } فالسياق كله في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره به ابن عباس ، ومن تبعه ، قال : وعلى كلّ من القولين إشكال على مذهب الجمهور ؛ لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة ، أو كافرة مزوجة ، أو بكراً ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء .
وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، ثم ذكر أن منهم من أجاب ، وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ، ومنهم من عمل على مفهوم الآية ، وقال : إذا زنت ، ولم تحصن ، فلا حدّ عليها ، وإنما تضرب تأديباً . قال : وهو المحكي عن ابن عباس ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد ، وداود الظاهري في رواية عنه ، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم ، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد في الصحيحين ، وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة : إذا زنت ، ولم تحصن ، قال : " إن زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ، فاجلدوها ، ثم بيعوها ، ولو بضفير " بأن المراد بالجلد هنا : التأديب ، وهو تعسف ، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم ، فليجلدها الحدّ ، ولا يثرّب عليها . ثم إن زنت ، فليجلدها الحد " الحديث . ولمسلم من حديث علي قال : «يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن ، ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها » الحديث .
وأما ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن خزيمة ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على الأمة حدّ حتى تحصن بزوج ، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة ، والبيهقي : إن رفعه خطأ ، والصواب وقفه .
قوله : { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } الفاحشة هنا الزنا : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } أي : الحرائر الأبكار ؛ لأن الثيب عليها الرجم ، وهو لا يتبعض ، وقيل المراد بالمحصنات هنا : المزوّجات ؛ لأن عليهنّ الجلد ، والرجم ، والرجم لا يتبعض ، فصار عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد . والمراد بالعذاب هنا : الجلد ، وإنما نقص حدّ الإماء عن حدّ الحرائر ؛ لأنهنّ أضعف . وقيل : لأنهنّ لا يصلن إلى مرادهنّ ، كما تصل الحرائر ؛ وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، كما في قوله تعالى : { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد ، وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس .
وكما يكون على الإماء ، والعبيد نصف الحدّ في الزنا ، كذلك يكون عليهم نصف الحدّ في القذف والشرب . والإشارة بقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } إلى نكاح الإماء . والعنت : الوقوع في الإثم ، وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ، ثم استعير لكل مشقة { وَأَن تَصْبِرُوا } عن نكاح الإماء { خَيْرٌ لكُمْ } من نكاحهنّ ، أي : صبركم خير لكم ؛ لأن نكاحهنّ يفضي إلى إرقاق الولد ، والغضّ من النفس .