فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (25)

قوله : { وَمَن لمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } الطول : الغنى والسعة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وابن زيد ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وجمهور أهل العلم . ومعنى الآية : فمن لم يستطع منكم غنى ، وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات ، فلينكح من فتياتكم المؤمنات ، يقال طال يطول طولاً في الإفضال والقدرة ، وفلان ذو طول ، أي : ذو قدرة في ماله . والطول بالضم : ضد القِصَر . وقال قتادة ، والنخعي ، وعطاء ، والثوري : إن الطول الصبر . ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة . وقال أبو حنيفة ، وهو مرويّ عن مالك : إن الطول المرأة الحرّة ، فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ، ولو كان غنياً ، وبه قال أبو يوسف ، واختاره ابن جرير ، واحتج له . والقول الأوّل هو المطابق لمعنى الآية ، ولا يخلو ما عداه عن تكلف ، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره . وقد استدلّ بقوله : { من فتياتكم المؤمنات } على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال أهل الحجاز ، وجوّزه أهل العراق ، ودخلت الفاء في قوله : { فما مَا مَلَكَتْ أيمانكم } لتضمن المبتدأ معنى الشرط .

وقوله : { من فتياتكم المؤمنات } في محل نصب على الحال ، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرّة . والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت . والمراد هنا : الأمة المملوكة للغير ، وأما أمة الإنسان نفسه ، فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها ، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها . والفتيات جمع فتاة ، والعرب تقول للمملوك فتى ، وللمملوكة فتاة . وفي الحديث الصحيح : «لا يقولنّ أحدكم عبدي ، وأمتي ، ولكن ليقل فتاي ، وفتاتي » قوله : { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران ، أي : كلكم بنو آدم ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة . فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر . والجملة اعتراضية . وقوله : { بَعْضُكُم من بَعْضٍ } مبتدأ وخبر ، ومعناه : أنهم متصلون في الأنساب ؛ لأنهم جميعاً بنو آدم ، أو متصلون في الدين ؛ لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة ، وكتابهم واحد ونبيهم واحد .

والمراد بهذا : توطئة نفوس العرب ؛ لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ، ويستصغرونهم ، ويغضون منهم : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي : بإذن المالكين لهنّ ؛ لأن منافعهنّ لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له .

قوله : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } أي : أدّوا إليهنّ مهورهنّ بما هو بالمعروف في الشرع ، وقد استدل بهذا من قال : إن الأمة أحقّ بمهرها من سيدها ، وإليه ذهب مالك ، وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهنّ ؛ لأن التأدية إليهنّ تأدية إلى سيدهن لكونهنّ ماله . قوله : { محصنات } أي : عفائف . وقرأ الكسائي «محصنات » بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله : { والمحصنات مِنَ النساء } وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن . قوله : { غَيْرَ مسافحات } أي : غير معلنات بالزنا . والأخدان : الأخلاء ، والخدن ، والخدين المخادن ، أي : المصاحب ، وقيل ذات الخدن : هي التي تزني سرّاً ، فهو مقابل للمسافحة وهي التي تجاهر بالزنا ، وقيل : المسافحة ، المبذولة ، وذات الخدن ، التي تزني بواحد . وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ، ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، قال الله : { وَلاَ تَقْرَبُوا الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] . قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح الهمزة ، وقرأ الباقون بضمها . والمراد بالإحصان هنا : الإسلام . روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزرّ بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والسديّ ، وروي عن عمر بن الخطاب ، بإسناد منقطع ، وهو الذي نص عليه الشافعي ، وبه قال الجمهور . وقال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : إنه التزويج . وروي عن الشافعي . فعلى القول الأوّل لا حدّ على الأمة الكافرة . وعلى القول الثاني لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج . وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها ، وعفافها . وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف ، فمن قرأ { أحصنّ } بضم الهمزة ، فمعناه التزويج ، ومن قرأ بفتح الهمزة ، فمعناه الإسلام . وقال قوم : إن الإحصان المذكور في الآية هو : التزوج ، ولكن الحدّ واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوّج بالسنة ، وبه قال الزهري . قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عزّ وجل يقتضي أنه لا حدّ على الأمة ، وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها ، وإن لم تحصن ، وكان ذلك زيادة بيان . قال القرطبي : ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد .

قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر ، والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا : التزويج ؛ لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه : { وَمَن لمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } إلى قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } فالسياق كله في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره به ابن عباس ، ومن تبعه ، قال : وعلى كلّ من القولين إشكال على مذهب الجمهور ؛ لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة ، أو كافرة مزوجة ، أو بكراً ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء .

وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، ثم ذكر أن منهم من أجاب ، وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ، ومنهم من عمل على مفهوم الآية ، وقال : إذا زنت ، ولم تحصن ، فلا حدّ عليها ، وإنما تضرب تأديباً . قال : وهو المحكي عن ابن عباس ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد ، وداود الظاهري في رواية عنه ، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم ، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد في الصحيحين ، وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة : إذا زنت ، ولم تحصن ، قال : " إن زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ، فاجلدوها ، ثم بيعوها ، ولو بضفير " بأن المراد بالجلد هنا : التأديب ، وهو تعسف ، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم ، فليجلدها الحدّ ، ولا يثرّب عليها . ثم إن زنت ، فليجلدها الحد " الحديث . ولمسلم من حديث علي قال : «يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن ، ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها » الحديث .

وأما ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن خزيمة ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على الأمة حدّ حتى تحصن بزوج ، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة ، والبيهقي : إن رفعه خطأ ، والصواب وقفه .

قوله : { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } الفاحشة هنا الزنا : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } أي : الحرائر الأبكار ؛ لأن الثيب عليها الرجم ، وهو لا يتبعض ، وقيل المراد بالمحصنات هنا : المزوّجات ؛ لأن عليهنّ الجلد ، والرجم ، والرجم لا يتبعض ، فصار عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد . والمراد بالعذاب هنا : الجلد ، وإنما نقص حدّ الإماء عن حدّ الحرائر ؛ لأنهنّ أضعف . وقيل : لأنهنّ لا يصلن إلى مرادهنّ ، كما تصل الحرائر ؛ وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، كما في قوله تعالى : { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد ، وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس .

وكما يكون على الإماء ، والعبيد نصف الحدّ في الزنا ، كذلك يكون عليهم نصف الحدّ في القذف والشرب . والإشارة بقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } إلى نكاح الإماء . والعنت : الوقوع في الإثم ، وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ، ثم استعير لكل مشقة { وَأَن تَصْبِرُوا } عن نكاح الإماء { خَيْرٌ لكُمْ } من نكاحهنّ ، أي : صبركم خير لكم ؛ لأن نكاحهنّ يفضي إلى إرقاق الولد ، والغضّ من النفس .

/خ28