غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (25)

23

ثم وسع الأمر على عبادة فقال : { ومن لم يستطع منكم طولاً } فضلاً في المال وسعة ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه ونقصان . و { أن ينكح } متعلق ب { طولاً } يقال : طال على الأمر إذا غلبه فتمكن من فعله . والمحصنات ههنا الحرائر ، والمعنى ومن لم يقدر على نكاح الحرة فلينكح من الإماء التي ملكتها أيمانكم . قال ابن عباس : يريد جارية أخيك فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه والفتيات المملوكات . تقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي " وقال الشافعي : إنّ الله تعالى شرط في نكاح الإماء ثلاث شرائط : اثنتان في الناكح الأولى فقد طول الحرة وهو عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أحج إذا كان لا يجد ما يحج به . فإذا كان كذلك جاز له التزوّج بالأمة لأنّ العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة ساداتهن . والثانية خشية العنت كما يجيء في آخر الآية . والثالثة في المنكوحة وهي أن تكون الأمة لمسلم ومع ذلك تكون مؤمنة لا كافرة لقوله : { من فتياتكم المؤمنات } فالقيد الأول مستفاد من قوله : { من فتياتكم } أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين ، والقيد الثاني من وصف الفتيات بالمؤمنات . أما فائدة القيد الأول فهي أن الولد تابع للأم في الحرية والرق ، وحينئذٍ يعلق الولد رقيقاً على ملك الكافر .

إلاّ أن هذا القيد ألغاه أكثر الأئمة لأنّ الولد إذا رق للكافر بيع عليه في الحال . وأما فائدة القيد الثاني فالحذر من اجتماع النقصانين الكفر والرق . وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ومذهب مالك والشافعي . أما أبو حنيفة فإنه يقول : الغني والفقير سواء في جواز نكاح الأمة . وذلك أنه يحمل النكاح في الآية على الوطء ويقول : المراد أن من لم يملك فراش الحرة فله أن ينكح أمة . ثم الأمة لو كانت كتابية جاز له نكاحها ولكن نكاح الأمة المؤمنة أفضل فحمل التقييد في الآية على الفضل لا على الوجوب قياساً على جواز نكاح الحرة الكتابية بالإجماع مع وصف الحرائر أيضاً بالمؤمنات . وأجيب بالفرق وهو اجتماع النقصانين . ومن الناس من قال : لا يجوز التزوّج بالكتابيات ألبتة ولا شك أن في الآية دلالة على الحذر عن نكاح الإماء وأن الإقدام عليه لا يجوز إلاّ عند الضرورة وذلك لتباعة الولد الأم في الرق ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة فربما تعوّدت بسبب ذلك فجوراً وقحة ، ولما للمولى عليها من حق الاستخدام فلا تخلص لخدمة الزوج ، ولأنّ السيد قد يبيعها فتصير مطلقة عند من يقول بذلك ، ولأنّ مهرها ملك لمولاها فلا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه .

{ والله أعلم بإيمانكم } قال الزجاج : أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله أعلم بما في الصدور . { بعضكم من بعض } كلكم أولاد آدم فلا يتداخلكم أنفة من التزوّج بالإماء عند الضرورة ، أو كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم المقاصد فإذا حصل الاشتراك فيه فما وراءه غير ملتفت إليه . وفيه توهين ما كانوا عليه في الجاهلية من الفخر بالأنساب والأحساب وتأنيس بنكاح الإماء إذا كن مؤمنات . ثم شرح كيفية هذا النكاح فقال : { فانكحوهن بإذن أهلهن } فلذلك اتفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل لأنّ نكاحهن غير واجب فيتوجه الأمر إلى اشتراط الإذن ، ولأنّ التزوّج بها يعطل على السيد أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز إلاّ بإذنه . ولفظ القرآن مقتصر على الأمة . وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث . روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا تزوّج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر " واستدل الشافعي بالآية على أنّ المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلاّ بإذن الولي لأنّ قوله : { فانكحوهن } الضمير فيه يعود إلى الإماء . والأمة ذات موصوفة بصفة الرق ، وصفة الرق صفة زائلة ، والإشارة إلى ذات موصوفة بصفة عرضية زائلة تبقى بعد زوال تلك الصفة بدليل أنه لو حلف لم يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخاً ثم تكلم معه يحنث في يمينه . فعند زوال الرق عنها وهي حرة عاقلة بالغة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها ، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة ثبت في سائر الصورة ضرورة أنه لا قائل بالفرق .

واعترض على قول الشافعي بأنّ ظاهر الآية يدل على الاكتفاء بحصول إذن أهلها وعنده لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها . وأجيب بأن المراد بالإذن الرضا ، وعندنا أن رضا المولى لا بد منه . فإما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه ، وأيضاً إن أهلهن عبارة عمن يقدر على إنكاحهن وهو المولى إن كان رجلاً أو ولي المولى إن كان امرأة . سلمنا أن الأهل هو المولى لكنه عام يخصصه قوله صلى الله عليه وسلم : " العاهر هي التي تنكح نفسها " إذ يلزمه أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكها ضرورة أنه لا قائل بالفرق . قلت : الإنصاف أن استدلال الشافعي لا يتم . فلقائل أن يقول : لا نسلم أن صفة الرق للأمة عرضية من حيث إنها أمة ، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الإشارة إلى ذات الأمة في الآية تبقى بعد زوال صفة الرق . فكونها مثل قول القائل لا أتكلم مع هذا الشاب ممنوع . فمن المعلوم عرفاً أن المراد به ذات الشاب من حيث هو ولكنه كقول الحالف : لا أكلم شاباً . فحينئذٍ لو كلّم زيداً وزيد شاب حنث فإذا صار شيخاً ثم كلمه لم يحنث . { وآتوهن أجورهن } أي مهورهن وفيه دلالة على وجوب مهرها إذا نكحها - سمى لها المهر أو لم يسم - وفي قوله : { بالمعروف } دلالة على أنه مبني على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد المتعارف وهو مهر المثل ، أو المراد بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء . وقيل : الأجور النفقة عليهن لأن المهر مقدر فلا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بيَّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة . وعن بعض أصحاب مالك أنّ الأمة هي المستحقة لقبض مهرها ، وأنّ المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجرة دونها واحتجوا في المهر بظاهر قوله : { وآتوهن أجورهن } وأما الجمهور فعلى أن مهرها لمولاها لقوله تعالى :{ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء }

[ النحل :75 ] وهذا ينفي كون المملوكة مالكة لشيء أصلاً ، ولأنّ منافعها كانت مملوكة للسيد وقد أباحها للزوج بعقد النكاح فوجب أن يستحق بدلها . وأما ظاهر الآية فلو حملنا لفظ الأجور على النفقة فلا إشكال ، ولو حملناه على المهور فالجواب أنها ثمن أبضاعهن فلذلك أضيف الأجور إليهن . وليس في قوله : { وآتوهن } ما يوجب كون المهر ملكاً لهن . وهب أن المهر ملك لهن ولكنه صلى الله عليه وسلم قال : " العبد وما يملكه لمولاه " أو المراد وآتوا مواليهن فحذف المضاف { محصنات } قال ابن عباس : أي عفائف وهو حال من قوله : { فانكحوهن } وظاهره يقتضي حرمة نكاح الزواني لكن الأكثرون على أنه يجوز فالآية محمولة على الندب والاستحباب .

{ غير مسافحات } قال أكثر المفسرين : المسافحة هي التي تؤاجر نفسها أي رجل أرادها ، ومتخذة الخدن هي التي لها صديق معيّن . وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية ، فلما كان هذا الفرق معتبراً عندهم فلا جرم أفردهما الله تعالى بالذكر تنصيصاً على حرمتهما معاً . والأخدان جمع خدن كالأتراب جمع ترب . والخدن الذي يخادنك أي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن ، يقع على الذكر والأنثى . { فإذا أحصن } بالتزوّج وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد ، أو بالإسلام وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي . وكأنه تعالى ذكر حال إيمانهن في النكاح في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } ثم كرر ذلك في حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة . وههنا إشكال وهو أن المحصنات في قوله : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } أريد بها الحرائر المتزوجات أو الحرائر الأبكار . وعلى الأول يجب عليهن نصف الرجم وتنصيف الرجم محال ، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة محصنة كانت أو لم تكن ، وقد علق ذلك في الآية بمجموع الأمرين : الإحصان والزنا . والجواب أنا نختار القسم الأول ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي لأن الرجم لا يتنصف ، أو الثاني والمراد بيان تخفيف عذابهن . وذلك أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليها ، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القدر أولى .

واعلم أن الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم واحتجوا بأنّ الآية تدل على أنّ عذاب الأمة نصف عذاب الحرة المحصنة ، فلو كان على الحرة الرجم لزم تنصيف الرجم في حق الأمة وهو محال . والجواب ما مرّ أن المخصص في حق الأمة دليل عقلي ، والفقهاء جعلوا الآية أصلاً في نقصان حكم العبد عن حكم الحرة في غير الحد وإن كان من الأمور ما لا يجب ذلك فيه كالصلاة والصوم وغيرهما . { ذلك } إشارة إلى نكاح الإماء بالاتفاق { لمن خشي العنت منكم } وقد عرفت فيما مرّ أن معناه الوقوع في أمر شاق . وللمفسرين ههنا قولان : أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تدعو إلى الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب الأليم في الآخرة ، والثاني أن الشبق قد يفضي إلى الأمراض الشديدة كأوجاع الوركين والظهر والوسواس وكاختناق الرحم للنساء ، والأول أليق ببيان القرآن وعليه أكثر العلماء . { وأن تصبروا } أي صبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين خير لكم لما فيه من المفاسد المذكورة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت "

{ والله غفور رحيم } تأكيد لما ذكره من أن الأولى ترك النكاح إلاّ أنه أباحه لاحتياج المكلفين فهو من باب المغفرة والرحمة

/خ30