معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

قوله تعالى : { إياك نعبد } . ( إيا ) كلمة ضمير خصت بالإضافة إلى المضمر ، ويستعمل مقدماً على الفعل ، فيقال : إياك أعني ، وإياك أسأل ، ولا يستعمل مؤخراً إلا منفصلاً . فيقال : ما عنيت إلا إياك .

قوله : { نعبد } أي نوحدك ونطيعك خاضعين ، والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع ؛ وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده ، يقال : طريق معبد أي مذلل .

قوله تعالى : { وإياك نستعين } . نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا . فإن قيل : لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة والاستعانة تكون قبل العبادة ؟ فلهذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل . ونحن نحمد الله نجعل التوفيق والاستعانة مع الفعل ، فلا فرق بين التقديم والتأخير ، ويقال : الاستعانة نوع تعبد ، فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

[ قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من { إياك } وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة ؛ لأن " إيا " ضوء الشمس . وقرأ بعضهم : " أياك " بفتح الهمزة وتشديد الياء ، وقرأ بعضهم : " هياك " بالهاء بدل الهمزة ، كما قال الشاعر :

فهياك والأمر الذي إن تراحبت *** موارده ضاقت عليك مصادره

و{ نستعين } بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس ]{[923]} . العبادة في اللغة من الذلة ، يقال : طريق مُعَبّد ، وبعير مُعَبّد ، أي : مذلل ، وفي الشرع : عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف .

وقدم المفعول وهو { إياك } ، وكرر ؛ للاهتمام والحصر ، أي : لا نعبد إلا إياك ، ولا نتوكل إلا عليك ، وهذا هو كمال الطاعة . والدين يرجع كله{[924]} إلى هذين المعنيين ، وهذا كما قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة ، والتفويض إلى الله عز وجل . وهذا المعنى في غير آية من القرآن ، كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ هود : 123 ] { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] { رَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ] ، وكذلك هذه الآية الكريمة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب ، وهو مناسبة{[925]} ، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى ؛ فلهذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى ، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ؛ ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك ، وهو قادر عليه ، كما جاء في الصحيحين ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب »{[926]} . وفي صحيح مسلم ، من حديث العلاء بن عبد الرحمن ، مولى الحُرَقَة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 3 ] قال : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] قال الله : مجدني عبدي ، وإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6 ، 7 ] قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل »{[927]} . وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { إياك نعبد } يعني : إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك { وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها .

وقال قتادة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم .

وإنما قدم : { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة له هي المقصودة ، والاستعانة وسيلة إليها ، والاهتمام والحزم هو أن يقدم{[928]} ما هو الأهم فالأهم ، والله أعلم .

فإن قيل : فما معنى النون في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي واحد ، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام ؟ وقد أجيب : بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ، ولاسيما إن كان في جماعة أو إمامهم ، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه{[929]} المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها{[930]} ، وتوسط لهم بخير ، ومنهم من قال : يجوز أن تكون للتعظيم ، كأن العبد قيل له : إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وإذا كنت خارج العبادة فلا تقل : نحن ولا فعلنا ، ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لافتقار الجميع إلى الله عز وجل . ومنهم من قال : ألطف في التواضع من إياك أعبد ، لما في الثاني من تعظيمه نفسه من جعله نفسه وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ، ولا يثني عليه كما يليق به ، والعبادة مقام عظيم{[931]} يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى ، كما قال بعضهم :

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي

وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته [ فقال ]{[932]} { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [ الكهف : 1 ] { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } [ الإسراء : 1 ] فسماه عبدًا عند إنزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به ، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له ، حيث يقول : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 97 - 99 ] .

وقد حكى فخر الدين في تفسيره عن بعضهم : أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة ؛ لكون العبادة تصدر{[933]} من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق ؛ قال : ولأن الله متولي مصالح عبده ، والرسول متولي مصالح أمته{[934]} وهذا القول خطأ ، والتوجيه أيضًا ضعيف لا حاصل له ، ولم يتعرض له فخر الدين بتضعيف ولا رده . وقال بعض الصوفية : العبادة إما لتحصيل ثواب ورد عقاب ؛ قالوا : وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده ، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى ، وهذا - أيضًا - عندهم ضعيف ، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال ، قالوا : ولهذا يقول المصلي : أصلي لله ، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء{[935]} العذاب لبطلت صلاته . وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا : كون العبادة لله عز وجل ، لا ينافي أن يطلب معها ثوابا ، ولا أن يدفع عذابًا ، كما قال ذلك الأعرابي : أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «حولها ندندن »{[936]} .


[923]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[924]:في ط: "كله يرجع".
[925]:في جـ، ط: "مناسب".
[926]:صحيح البخاري برقم (756)وصحيح مسلم برقم (394).
[927]:صحيح مسلم برقم (395).
[928]:في جـ، ط، ب:"والحزم تقديم".
[929]:في أ، و: "إخوته".
[930]:في و: "من أجلها".
[931]:في أ: "شريف".
[932]:زيادة من و.
[933]:في أ، و: "تصرفه".
[934]:في و: "العبد".
[935]:في أ: "ورده".
[936]:رواه أحمد في المسند (3/474) وأبو داود في السنن برقم (792) وابن حبان في صحيحه برقم (514) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إياك نعبد وإياك نستعين } ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ، أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ، فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا ، بني أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها .

اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر ، ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس ، كقوله تعالى { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } وقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه } وقول امرئ القيس :

تطاول ليلك بالإثمد *** ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني *** وخبرته عن أبي الأسود

وإيا ضمير منصوب منفصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك . وقال الخليل إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه . وقيل هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع . وقرئ { إياك } بفتح الهمزة و " هياك " بقلبها هاء .

والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى .

والاستعانة : طلب المعونة وهي : إما ضرورية ، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل . وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي ، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه ، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها ، أو في أداء العبادات ، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة ، وحاضري صلاة الجماعة . أو له ولسائر الموحدين . أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم .

المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ( معناه نعبدك ولا نعبد غيرك ) وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال { لا تحزن إن الله معنا } على ما حكاه عن كليمه حين قال : { إن معي ربي سيهدين } . وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير ، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة .

وأقول : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه ، فعقبه بقوله : { وإياك نستعين } ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق ، وقيل : الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك . وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( 5 )

وقوله تعالى : { إياك نعبد } .

نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله ، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك ، وقدم المفعول على الفعل اهتماماً( {[66]} ) ، وشأن العرب تقديم الأهم .

ويذكر أن أعرابياً سبّ آخر فأعرضَ المسبوبُ عنهُ ، فقال له السابُّ : «إياك أعني » فقال الآخر : «وعنكَ أُعرِضُ » فقدَّما الأهم .

وقرأ الفضل الرقاشي( {[67]} ) : «أياك » بفتح الهمزة ، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد : «إيَاك » بكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها ، وهذا كتخفيف «ربْ » و «إنْ »( {[68]} ) . وقرأ أبو السوار الغنوي( {[69]} ) : «هيّاك نعبد وهيّاك نستعين » بالهاء ، وهي لغة( {[70]} ) . واختلف النحويون في { إيّاك } فقال الخليل : إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف ، وحكي عن العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب »( {[71]} ) . وقال المبرد : إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ { إيّاك } بكماله اسم مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره ، وحكي عن بعضهم أنه قال : الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر ، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات ، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا » عماداً لها . فيقال «إياك » و «إياه » و «إيّاي » ، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «إيا » .

وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب ، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم ، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيداً ما فعل .

و { نعبد } معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة ، والطريق المذلل يقال له معبد ، وكذلك البعير . وقال طرفة : [ الطويل ] .

تباري عتاق الناجيات وأتبعت . . . وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد( {[72]} )

وتكررت { إياك } بحسب اختلاف الفعلين ، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام .

و { نستعين } معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا ، وهذا كله تبرؤ( {[73]} ) من الأصنام . وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي : «ونستعين » بكسر النون ، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحوعلم وشرب ، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال ، فإنهم يقولون تخال وأخال .

و { نستعين } أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، والمصدر استعانة أصله استعواناً نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفاً ، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين ، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى ، فهي أولى بالبقاء ، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء ، ثم لزمت الهاء عوضاً من المحذوف ،


[66]:- وللاختصاص أيضا، إذ العلل والمقتضيات لا تتراحم ولا تتخاصم.
[67]:- وهو ابن عبد الصمد بن الفضل أبو العباس الرقاشي البصري الشاعر المتوفى تقريبا سنة (200)هـ. كان هو وأبو نواس يتهاجيان.
[68]:- لا عبرة بذلك فهي قراءة شاذة مردودة.
[69]:- بفتح السين وتشديد الواو، عربي فصيح، أخذ عنه أبو عبيدة فمن دونه، كما في بغية الوعاة.
[70]:- استدل كل من القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"1/127، وابن كثير في تفسيره 1/47- وصاحب الكشاف في تفسيره 1/8- استدل كل منهم بقول الطفيل الغنوي: فهياك والأمر الذي إن تراحبَتْ موارده ضاقت عليك مصادره
[71]:- إضافة (إيَّا) إلى الظاهر نحو (وإيا الشواب) ونحو (دعني وإيا خالد) –نادر أو ضرورة.
[72]:- المور: الطريق، والناجيات: السراع، وطرفة هو ابن العبد الشاعر المشهور.
[73]:- وفي بعض النسخ: تبر.