نفردك يا ربنا بالعبادة ، ونختصك بها دون سواك ، ونؤديها لك لا نشرك فيها أحدا معك ؛ تقدس اسمك ، وعز شأنك ، وعمت رحمتك ، وتعين حمدك ، وتباركت ربوبيتك ، وعظم في الدارين سلطانك فلا تليق العبادة بكل معانيها إلا لك .
وكلمة عبد وما تصرف منها تعني في اللغة : خشع وتمهد ، يقال : عبدت الطريق والفرس إذا ذللتهما للسير والركوب ؛ وتعني في الشرع : كمال المحبة والتقديس لله تعالى والخضوع لأمره ، والخوف من بأسه ومقته{[37]} .
والعبادة بهذا المعنى أصل الرسالات جميعا : يقص القرآن الكريم علينا من نبإ نوح عليه السلام : { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . }{[38]} . ومن نبأ هود عليه السلام { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . }{[39]}
ومن نبإ صالح عليه السلام : { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . }{[40]} .
ومن نبإ شعيب –عليه وعلى جميع المرسلين الصلوات من الله والتسليم- : { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . }{[41]} .
ومن نبإ إبراهيم عليه السلام : { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله . . }{[42]} .
ومن نبإ يعقوب عليه السلام : { . . إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا . . . }{[43]} .
ومن نبإ يوسف عليه السلام : { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم . . }{[44]}
ومن نبإ موسى عليه السلام { فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى . . }{[45]}
ومن نبإ عيسى عليه السلام { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه . . }{[46]}
وروى ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما { إياك نعبد } يعني إياك نوحد ونخاف ، ونرجوك يا ربنا لا غيرك . اه
و{ إياك } أصلها كاف ( المفعول ) ثم قرنت بها ( إيا ) لتقدمها على الفعل ؛ وقدمت لإفادة الاختصاص ، أي : لا نعبد أحدا سواك .
يقول أبو عبد الله الأنصاري القرطبي : قوله تعالى { إياك نعبد } رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين{[47]} . لأن من أول السورة إلى هاهنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه ، كقوله { . . وسقاهم ربهم شرابا طهورا }{[48]} ثم قال { إن هذا كان لكم جزاء . . }{[49]} . . و( نعبد ) معناه نطيع ؛ والعبادة الطاعة والتذلل .
وأورد الحسن النيسابوري : واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم ، فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام ، وهو الله تعالى ؛ وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فقد كان معدودا فأوجده { . . وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا }{[50]} { . . وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يوميتكم ثم يحييكم . . }{[51]} وكان جاهلا فعلمه . . أسمعه وأبصره وأعقله : { . . وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . . }{[52]} فهو إله بهذه المعاني .
وأما الحاضر فحاجاته كثيرة : ووجوه افتقاره غير محصورة ، من أول عمره إلى آخره ، مع انفتاح أبواب المعصية ، وانخلاع ربقة الطاعة ؛ هو رب رحمان رحيم من هذه الوجوه .
وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت ، وإنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية .
فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو . . . فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه . . وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين . . قال عز من قائل : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }{[53]} .
. . النون في قوله : ( نعبد ) فيه وجوه من الحكمة منها :
أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبئ عن التعظيم والتكريم .
ومنها أن يكون المراد : أعبدك والملا ئكة معا والحاضرون ، بل جميع عبادك الصالحين .
ومنها أن جميع المؤمنين إخوة ، فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت علي بقولك : الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك ، بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : إياك نعبد . . ا ه .
أنت وحدك المستعان ، ومنك – دون سواك- نستمد العون ، إذ الخلق جميعا مفتقرون إلى المتفرد بالخلق والإيجاد والغنى ، ونحن نقر بضعف قوتنا وقلة حيلتنا إلا بك .
يقول إسماعيل بن كثير : وقدم المفعول وهو : إياك ، وكرر للاهتمام والحصر ، أي : لا نعبد إلا إياك ، ولا نتوكل إلا عليك ، وهذا هو كمال الطاعة . والدين كله يرجع إلى هذين . . فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة ، وتفويض إلى الله عز وجل ؛ وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى { . . فاعبده وتوكل عليه . . }{[54]} { قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا . . }{[55]} { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا }{[56]} . . وإنما قدم { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة هي المقصودة ، والاستعانة وسيلة إليها ؛ والاهتمام والحزم تقديم ما هو أهم فالأهم – والله أعلم –فإن قيل : فما معنى النون في قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } ؟ فإن كانت للجمع فالداعي واحد ، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام ؟
وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد ، والمصلي فرد منهم ولاسيما إذا كان في جماعة أو إمامهم ، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها ، وتوسط لهم بخير . . اه .
هذا ويمكن أن يراد : بك نستعين على العبادة الخالصة لوجهك ، ويراد بالعبادة معناها الأعم الذي هو فعل كل خير والسعي في كل صلاح ، ورعاية حق الخلافة عن الله في الأرض بتقديم كل نفع ، ودرء كل فساد أو شر ؛ وهي عظائم ، ما يعين على النهوض بها والوفاء بحقها والصبر على تكاليفها إلا الله المستعان على كل عظيمة .
وإن الله الحكيم العليم ليثني على خاصة رسله صلوات الله عليهم يصفهم حين يهبهم أجزل الفضل بوصف العبودية { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا }{[57]} فحين كانت الآية الكبرى – إنجاء الله من آمن مع نوح وإغراق المكذبين – قرنها المولى سبحانه بوصفه نبيه العظيم بالعبودية الحقة . كما أمر خاتم رسله ومن اتبعه أن يذكروا فضله – جل علاه- على الرسل المكرمين { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار{[58]} } . ولما امتن الله- تباركت أسماؤه- على خاتم النبيين بنزول القرآن المجيد قرنه بالعبودية { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا }{[59]} ، { تبارك الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا }{[60]} . ويوم أسرى به ليريه من عجائب صنعه في أرضه وسمائه نسبه إلى العبودية { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . }{[61]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.