فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إياك نعبد }

نفردك يا ربنا بالعبادة ، ونختصك بها دون سواك ، ونؤديها لك لا نشرك فيها أحدا معك ؛ تقدس اسمك ، وعز شأنك ، وعمت رحمتك ، وتعين حمدك ، وتباركت ربوبيتك ، وعظم في الدارين سلطانك فلا تليق العبادة بكل معانيها إلا لك .

وكلمة عبد وما تصرف منها تعني في اللغة : خشع وتمهد ، يقال : عبدت الطريق والفرس إذا ذللتهما للسير والركوب ؛ وتعني في الشرع : كمال المحبة والتقديس لله تعالى والخضوع لأمره ، والخوف من بأسه ومقته{[37]} .

والعبادة بهذا المعنى أصل الرسالات جميعا : يقص القرآن الكريم علينا من نبإ نوح عليه السلام : { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . }{[38]} . ومن نبأ هود عليه السلام { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . }{[39]}

ومن نبإ صالح عليه السلام : { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . }{[40]} .

ومن نبإ شعيب –عليه وعلى جميع المرسلين الصلوات من الله والتسليم- : { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . }{[41]} .

ومن نبإ إبراهيم عليه السلام : { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله . . }{[42]} .

ومن نبإ يعقوب عليه السلام : { . . إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا . . . }{[43]} .

ومن نبإ يوسف عليه السلام : { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم . . }{[44]}

ومن نبإ موسى عليه السلام { فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى . . }{[45]}

ومن نبإ عيسى عليه السلام { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه . . }{[46]}

وروى ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما { إياك نعبد } يعني إياك نوحد ونخاف ، ونرجوك يا ربنا لا غيرك . اه

و{ إياك } أصلها كاف ( المفعول ) ثم قرنت بها ( إيا ) لتقدمها على الفعل ؛ وقدمت لإفادة الاختصاص ، أي : لا نعبد أحدا سواك .

يقول أبو عبد الله الأنصاري القرطبي : قوله تعالى { إياك نعبد } رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين{[47]} . لأن من أول السورة إلى هاهنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه ، كقوله { . . وسقاهم ربهم شرابا طهورا }{[48]} ثم قال { إن هذا كان لكم جزاء . . }{[49]} . . و( نعبد ) معناه نطيع ؛ والعبادة الطاعة والتذلل .

وأورد الحسن النيسابوري : واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم ، فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام ، وهو الله تعالى ؛ وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فقد كان معدودا فأوجده { . . وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا }{[50]} { . . وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يوميتكم ثم يحييكم . . }{[51]} وكان جاهلا فعلمه . . أسمعه وأبصره وأعقله : { . . وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . . }{[52]} فهو إله بهذه المعاني .

وأما الحاضر فحاجاته كثيرة : ووجوه افتقاره غير محصورة ، من أول عمره إلى آخره ، مع انفتاح أبواب المعصية ، وانخلاع ربقة الطاعة ؛ هو رب رحمان رحيم من هذه الوجوه .

وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت ، وإنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية .

فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو . . . فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه . . وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين . . قال عز من قائل : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }{[53]} .

. . النون في قوله : ( نعبد ) فيه وجوه من الحكمة منها :

أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبئ عن التعظيم والتكريم .

ومنها أن يكون المراد : أعبدك والملا ئكة معا والحاضرون ، بل جميع عبادك الصالحين .

ومنها أن جميع المؤمنين إخوة ، فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت علي بقولك : الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك ، بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : إياك نعبد . . ا ه .

{ وإياك نستعين }

أنت وحدك المستعان ، ومنك – دون سواك- نستمد العون ، إذ الخلق جميعا مفتقرون إلى المتفرد بالخلق والإيجاد والغنى ، ونحن نقر بضعف قوتنا وقلة حيلتنا إلا بك .

يقول إسماعيل بن كثير : وقدم المفعول وهو : إياك ، وكرر للاهتمام والحصر ، أي : لا نعبد إلا إياك ، ولا نتوكل إلا عليك ، وهذا هو كمال الطاعة . والدين كله يرجع إلى هذين . . فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة ، وتفويض إلى الله عز وجل ؛ وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى { . . فاعبده وتوكل عليه . . }{[54]} { قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا . . }{[55]} { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا }{[56]} . . وإنما قدم { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة هي المقصودة ، والاستعانة وسيلة إليها ؛ والاهتمام والحزم تقديم ما هو أهم فالأهم – والله أعلم –فإن قيل : فما معنى النون في قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } ؟ فإن كانت للجمع فالداعي واحد ، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام ؟

وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد ، والمصلي فرد منهم ولاسيما إذا كان في جماعة أو إمامهم ، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها ، وتوسط لهم بخير . . اه .

هذا ويمكن أن يراد : بك نستعين على العبادة الخالصة لوجهك ، ويراد بالعبادة معناها الأعم الذي هو فعل كل خير والسعي في كل صلاح ، ورعاية حق الخلافة عن الله في الأرض بتقديم كل نفع ، ودرء كل فساد أو شر ؛ وهي عظائم ، ما يعين على النهوض بها والوفاء بحقها والصبر على تكاليفها إلا الله المستعان على كل عظيمة .

وإن الله الحكيم العليم ليثني على خاصة رسله صلوات الله عليهم يصفهم حين يهبهم أجزل الفضل بوصف العبودية { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا }{[57]} فحين كانت الآية الكبرى – إنجاء الله من آمن مع نوح وإغراق المكذبين – قرنها المولى سبحانه بوصفه نبيه العظيم بالعبودية الحقة . كما أمر خاتم رسله ومن اتبعه أن يذكروا فضله – جل علاه- على الرسل المكرمين { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار{[58]} } . ولما امتن الله- تباركت أسماؤه- على خاتم النبيين بنزول القرآن المجيد قرنه بالعبودية { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا }{[59]} ، { تبارك الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا }{[60]} . ويوم أسرى به ليريه من عجائب صنعه في أرضه وسمائه نسبه إلى العبودية { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . }{[61]} .


[37]:و العبادة في عرف الفقهاء تشتمل ما تعبدنا الله تعالى من أقوال وأفعال تؤدي بطرائقها المشروعة كالذكر والتلاوة والطهارة والصلاة والحج وسائر العبادات وتقابلها في اصطلاح الفقهاء المعاملات.
[38]:سورة الأعراف من الآية 59.
[39]:سورة الأعراف من الآية 65.
[40]:سورة الأعراف من الآية 73.
[41]:سورة الأعراف من الآية 85.
[42]:سورة العنكبوت من الآية 16.
[43]:سورة البقرة من الآية 133.
[44]:سورة يوسف من الآية 40.
[45]:سورة النازعات الآيتان 18-19.
[46]:سورة مريم من الآية 36.
[47]:و يطلق عليه عند البلاغيين وعلماء البيان : الالتفات.
[48]:سورة الإنسان من الآية 21.
[49]:سورة الإنسان من الآية 22.
[50]:سورة مريم من الآية 9.
[51]:سورة البقرة من الآية 28.
[52]:سورة النحل من الآية 78.
[53]:سورة الحجر الآيات 97-98-99.
[54]:سورة هود من الآية 123.
[55]:سورة الملك من الآية 29.
[56]:سورة المزمل الآية 9.
[57]:سورة الإسراء الآية 3.
[58]:سورة ص الآية 45.
[59]:سورة الكهف الآية 1.
[60]:سورة الفرقان الآية 1.
[61]:سورة الإسراء من الآية 1.