{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
التفات من الغَيْبة إلى الخطاب ، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب ، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام ، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام ، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب ، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن ، كما في قوله عز وجل : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } [ فاطر ، الآية 9 ] الآية ، وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس ، الآية 22 ] إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها ، ومزايا تستدعيها ، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز ، وأتمَّ ظهورٍ ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور ، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب ، والإيذانَ بأن حقّ التالي - بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس ، المستوجبِ للعبودية ، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية ، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين ، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً ، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ - أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان ، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود ، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس ، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه ، وهو يدعو بالخضوع والإخبات ، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً : يا من هذه شؤونُ ذاتهِ وصفاتهِ ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود ، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان ، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية .
و( إيا ) ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ ، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيين الخطاب ، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب : إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ ، فمما لا يعول عليه . وقيل : هي الضمائر ، وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة ، وقيل : الضميرُ هو المجموع ، وقُرِئ ( إَيَّاك ) بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء .
[ معنى العبادة والعبودية والاستعانة ]
والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع ، ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل ، والعبوديةُ أدنى منها ، وقيل : العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله ، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى ، والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بيانه ، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص ، كما في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة ، الآية 40 ] مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به ، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك ، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب ، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل ، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً ، وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى ، والاستعانة من حقوق المُستعين ، ولأن العبادة واجبة حتماً ، والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه ، وقيل : لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول ، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانةِ [ على المفعول فيه ] ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه ، كما قالوا ، وقد قيل : إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي ، وهو اللائقُ بشأن التنزيل ، والمناسبُ لحال الحامد ، فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله ، ليستعينَه تعالى في إيقاعه ، ومن البيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى ، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء ، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه ، والتوجهُ التامّ إليه ، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً ، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً ، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها ، كأنه قيل : وإياك نستعين في ذلك ، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك ، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح ، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها ، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه ، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفى .
وقيل : الواوُ للحال ، أي إياك نعبدُ مستعينين بك ، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه ، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً ، وعَرْضِ العبادة ، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً ، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم ، وجماعةٍ هو من زُمرتهم ، كما هو ديدَنُ الملوك ، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له ، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك ، وقُرئ ( نِسْتعين ) بكسر النون على لغة بني تميم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.