إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

التفات من الغَيْبة إلى الخطاب ، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب ، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام ، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام ، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب ، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن ، كما في قوله عز وجل : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } [ فاطر ، الآية 9 ] الآية ، وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس ، الآية 22 ] إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها ، ومزايا تستدعيها ، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز ، وأتمَّ ظهورٍ ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور ، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب ، والإيذانَ بأن حقّ التالي - بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس ، المستوجبِ للعبودية ، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية ، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين ، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً ، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ - أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان ، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود ، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس ، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه ، وهو يدعو بالخضوع والإخبات ، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً : يا من هذه شؤونُ ذاتهِ وصفاتهِ ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود ، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان ، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية .

و( إيا ) ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ ، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيين الخطاب ، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب : إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ ، فمما لا يعول عليه . وقيل : هي الضمائر ، وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة ، وقيل : الضميرُ هو المجموع ، وقُرِئ ( إَيَّاك ) بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء .

[ معنى العبادة والعبودية والاستعانة ]

والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع ، ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل ، والعبوديةُ أدنى منها ، وقيل : العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله ، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى ، والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بيانه ، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص ، كما في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة ، الآية 40 ] مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به ، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك ، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب ، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل ، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً ، وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى ، والاستعانة من حقوق المُستعين ، ولأن العبادة واجبة حتماً ، والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه ، وقيل : لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول ، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانةِ [ على المفعول فيه ] ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه ، كما قالوا ، وقد قيل : إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي ، وهو اللائقُ بشأن التنزيل ، والمناسبُ لحال الحامد ، فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله ، ليستعينَه تعالى في إيقاعه ، ومن البيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى ، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء ، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه ، والتوجهُ التامّ إليه ، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً ، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً ، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها ، كأنه قيل : وإياك نستعين في ذلك ، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك ، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح ، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها ، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه ، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفى .

وقيل : الواوُ للحال ، أي إياك نعبدُ مستعينين بك ، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه ، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً ، وعَرْضِ العبادة ، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً ، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم ، وجماعةٍ هو من زُمرتهم ، كما هو ديدَنُ الملوك ، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له ، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك ، وقُرئ ( نِسْتعين ) بكسر النون على لغة بني تميم .