غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

3

" إيا " ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو " أرأيتك " وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " شاذ . والأصل نعبدك ونستعينك ، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلاً . وقرئ إياك بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء ، قال طفيل :

فهياك والأمر الذي إن تراحبت *** موارده ضاقت عليك مصادره

فإن قيل : لم عدل عن الغيبة إلى الخطاب ؟ قلنا : هذا يسمى الالتفات في علم البيان وذلك على عادة افتنانهم في الكلام والتنقل من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع . وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع . والعبادة أقصى غاية الخضوع . طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج .

في فوائد قوله { إياك نعبد } :

الأولى : لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحداً سواك والحاكم فيه الذوق السليم . واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى . وذلك أن للعبد أحوالاً ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فقد كان معدوماً فأوجده

{ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [ مريم : 9 ] { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] وكان جاهلاً فعلمه { أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [ النحل : 78 ] ثم أسمعه وأبصره وأعقله { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [ الملك : 23 ] فهو إله بهذه المعاني . وأما الحاضر فحاجاته كثيرة ، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة ، فهو رب رحمان رحيم من هذه الوجوه . وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية ، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو . وأيضاً ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالماً قادراً جواداً غنياً حكيماً إلى غير ذلك من الصفات الكمالية ، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين ، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه ، وأيضاً العبودية ذلة ومهانة ، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ . ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى ، فعبوديته أولى ، وأيضاً كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير ، والفقير مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه إفادة غيره . فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو

{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] .

الثانية : تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يميناً وشمالاً بخلاف العكس . ( يحكى ) أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه ، فصرع الأستاذ مراراً فقيل له : فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه . وأيضاً ذكره تعالى أوّلاً مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه ، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك ، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه . وأيضاً { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق { إياك نعبد } فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية . وأيضاً إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس ، أما إذا غير هذا الترتيب وقال : { إياك نعبد } كان بعيداً عن احتمال الشرك . وأيضاً الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدماً في الذكر . وأيضاً المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة ، وعلى المنعم لا على النعمة ، ولهذا قيل لبني إسرائيل { اذكروا نعمتي } [ البقرة : 40 ] ولأمة محمد { اذكروني } [ البقرة : 152 ] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة .

الثالثة : النون في قوله { نعبد } فيه وجوه من الحكمة منها : أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظاً ينبئ عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 2 ] كأنه قال : لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبداً ليّ جعلناك أمة { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] ومنها أنه لو قال : إياك أعبد كان إخباراً عن كونه عبداً فقط ، ولما قال : { إياك نعبد } صار معناه إني واحد من عبيدك ، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع . ومنها أن يكون تنبيهاً على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى الله عليه وسلم : " التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها " وههنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره ، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم ؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين . ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت عليّ بقولك { الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم مالك يوم الدين } ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : { إياك نعبد وإياك نستعين } . ومنها أن العبد يقول : إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين ، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات ، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين . وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد ، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة .

الرابعة : من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه ، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " وأيضاً التكاليف أمانة { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر . قال بعض الصحابة : أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد الناقة فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي ؟ قال الرواي : فزدنا تعجباً ، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه . وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات " . وأيضاً الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور ، وركون من الخلق إلى حضرة الحق ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة . ( يحكى ) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به . ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزاً كأزيز المرجل . ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن } [ يوسف : 31 ] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد ؟ ! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين ؟ ! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات ، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أشرف منها وأدوم ، وهذه مرتبة نازلة عند المحققين . وإما أن يعبد الله تشرفاً بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه ، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية . وإما أن يعبد الله لكونه إلهاً ولكونه عبداً له ، والإلهية توجب العزة والهيبة ، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة ، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي : أصلي لله فإنه لو قال : أصلي لثواب الله أو هرباً من عقابه فسدت صلاته . ( يحكى ) أن عابداً في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة ، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال : إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد ، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود . فرجع الملك فقال الله : بم أجاب العابد ؟ فقال : أنت أعلم يا رب ، إنه قال كذا وكذا . فقال الله تعالى : ارجع إليه وقل له : قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك . والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين . وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين . قال عز من قائل { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 97-99 ] ولأن العبودية أشرف المقامات . مدح الله تعالى نبيه في قوله { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال : { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] وكان عليّ يقول : كفاني فخراً أن أكون لك عبداً وكفاني شرفاً أن تكون لي رباً . اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت ، فاجعلني عبداً كما أردت . ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق ، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق ، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات ، وبالرسالة يقبل على التصرفات ، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " { لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] .

التاسع : في فوائد قوله { وإياك نستعين } .

الأولى : لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك ، وإنما يحصل الرجحان بمرجح . ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم ، فلابد أن ينتهي إلى الله تعالى . وأيضاً كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ولا يفوز به إلا بعضهم ، فليس ذلك إلا بإعانة الحق . وأيضاً قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته ، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله ، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله . وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه ، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم .

الثانية : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده ، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة ؟ والجواب كأنه يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف ، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان . وأيضاً إن قيل : الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب .

الثالثة : لا أريد بالإعانة غيرك اقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال : هل لك حاجة ؟ فقال له : أما إليك فلا . قال : فاسأل الله . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي ، ويداه عن البطش ، ولسانه إلا عن القراءة والذكر ، فكما أن الله قال { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [ الأنبياء : 69 ] فكذلك تقول له نار جهنم : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي .

الرابعة : لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته ، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك .

الخامسة : { إياك نعبد } تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله { وإياك نستعين } لإزالة ذلك .

السادسة : ههنا مقامان : معرفة الربوبية ومعرفة العبودية ، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله { الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم مالك يوم الدين } فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً ، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً ، وأحوال معادة تدل على أنه مالك يوم الدين ، وأما معرفة العبودية فمبدؤها { إياك نعبد } وكمالها { إياك نستعين } في جميع المطالب ، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله : { اهدنا } إلى آخره . وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه .

السابعة : في الالتفات الوارد في السورة وجوه : منها أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله : { مالك يوم الدين } ثم الله تعالى كأنه يقول : حمدتني وأقررت بأني إله ، رب العالمين ، رحمان رحيم ، مالك يوم الدين ، فنعم العبد أنت يا عبد . رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل { إياك نعبد } . ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه رباً لا يخرج شيء من ملكوته منعماً على الخلق بأنواع النعم -جلائلها ودقائقها- مالكاً للأمر كله في العاقبة ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل { إياك } يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به .

ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى ، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] { رب هب لي حكماً } [ الشعراء : 83 ] { رب زدني علماً } [ طه : 114 ] { ربي أرني } [ الأعراف : 143 ] { رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله ، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة .

الثامنة : اعلم أن المشركين طوائف ، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس ، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين ، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير ، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة ، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس ، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب . ومنهم من قال : مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية ، ومنهم من قال : الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم ، فيتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة . ومنهم من قال : للعالم إلهان ، أحدهما خير وهو الله ، والآخر شرير وهو إبليس . إذا عرفت ذلك فنقول : قد مر أن { الحمد لله } يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع { الحمد لله } { وإياك نعبد } يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله ، وأن الله أكبر من جميع المعبودين ، فيقوم مقام قوله { لا إله إلا الله والله أكبر } { وإياك نستعين } يدل على قوله { لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم } فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور { سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم } .