فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إياك نعبد وإياك نستعين } أي نخصك بالعبادة ونوحدك ونطيعك خاضعين لك ومنك نطب المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا ، وفي هذه الآية إبطال الجبر والقدر معا كما أشار إليه التغلبي في تفسيره ، و " إيا " عند سيبويه اسم مضمر والكاف حرف خطاب ولا محل له من الإعراب وهو الأصح وقد ارتضاه القاضي ، وعند الخليل اسم مضمر أضيف " إيا " إليه لأنه يشبه المظهر لتقدمه على الفعل والفاعل ، وقال الكوفيون إياك بكمالها اسم ، وجملة الأقوال فيه سبعة عد منها الخفاجي خمسة فقط ، وتقديم المفعول على الفعل لقصد الاختصاص والحصر والقصر ، وقيل للاهتمام ، والصواب أنه لهما ، ولا تزاحم بين المقتضيات .

والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل ، والعبودية أدنى منها ، وسمي العبد عبدا لذاته وانقياده ولا تستعمل إلا في الخضوع والخوف ، والاستعانة طلب المعونة ، وهي ضرورية وغير ضرورية .

والعدول عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الإلتفاف وتلوين النظم من باب إلى باب ، وفيه الترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ومن المعقول إلى المحسوس ، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ، وقد يكون من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } أي بكم وقوله { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه } أي فساقه ، وقد يكون من التكلم إلى الغيبة ، فهذه أربعة أقسام ذكرها البيضاوي ، والتحقيق أنها ستة وهي ظاهرة لأن الملتفت منه والملتفت إليه اثنان وكل منهما إما غيبة أو خطاب أو تكلم ، والعرب يستكثرون منه لفوائد تستدعيه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب آخر كان أدخل في القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه ، وأملأ لاستلذاذ إصغائه وأكثر إيقاظا له كما تقرر في علم المعاني ، وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة وقليل ما هم .

ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء وأجري عليه تلك الصفات ، تعلق العلم بمعلوم على الذات ، سمي الصفات ، حري بالثناء وغاية التذلل والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم للتميز بتلك الأوصاف ، فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك ، والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد أو عن سائر الموحدين ، وفيه إشعار على التزام الجماعة ، وقدمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي ولكون الأولى وسيلة إلى الثانية ، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب ، وإطلاق العباد والاستعانة لقصد التعميم لتتناول كل معبود به ومستعان فيه ، واستحسنه الزمخشري وقال لتلاؤم الكلام ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، وتكرير الضمير للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحد منهما ولإبراز الالتذاذ بالمناجاة والخطاب .

وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي{[57]} ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمان الرحيم ، قال أثنى علي عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين قال : مجدني عبدي ، وربما قال فوض إلي عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم الخ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) .

وعن أبي طلحة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة نلقى العدو فسمعته يقول ( يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين قال : فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها ) أخرجه البغوي والماوردي معا في معرفة الصحابة والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل .


[57]:مسلم /395.