الآية 5 : قوله تعالى : ( إياك نعبد ) فهو ، والله أعلم ، على إضمار الأمر ؛ أي قل : [ ذا ]{[117]} . ثم لم يجعل له أن يستثني في القول به ، بل ألزمه القول بالقول فيه . ثم يتوجه وجهين :
أحدهما : يحال القول به على الخبر عن حاله ، فيجب ألا يستثنى{[118]} في التوحيد . وإن من يستثني فيه عن شك يستثني ، والله تعالى وصف المؤمنين بقوله : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) الآية{[119]} [ الحجرات : 15 ] وكذا{[120]} سئل رسول الله ( ص ) عن أفضل الأعمال ، فقال : " إيمان لا شك فيه " [ أحمد 2/258 ] .
والثاني : عن الأحوال التي ترد{[121]} في ذلك ، لكنه إذا كان ذلك اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه ، إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات{[122]} ، إنما تعتقد للأبد . لذلك لم تجز الثنيا{[123]} فيه . وبالله التوفيق .
ثم قوله تعالى : ( إياك نعبد ) يتوجه وجهين{[124]} :
أحدهما : إلى التوحيد . وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه{[125]} أنه قال : ( كل عبادة في القرآن فهو توحيد ) .
والوجه الآخر : أن يكون على كل طاقة : أن يعبد الله بها . وأصلها يرجع إلى واحد لما على العبد أن يوحد الله في كل عبادة ، لا يشرك فيها أحدا . بل يخلصها . فيكون موحد الله تعالى بالعبادة والدين جميعا .
وعلى ذلك قطع الطمع والخوف والحوائج كلها عن الخلق ، وتوجيه ذلك إلى الله تعالى بقوله : ( أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) [ فاطر : 15 ] .
وعلى ذلك المؤمن لا يطمع في الحقيقة بأحد غير الله ، ولا [ يرفع إلا ]{[126]} إليه الحوائج ، ولا يخاف إلا من الوجه الذي يخشى أن الله جعله سببا لوصول بلاء من بلاياه على يديه . فعلى ذلك يخافه ، أو يرجو أن يكون الله تعالى جعل سبب ما دفعه إليه على يديه . فبذلك يرجو ، ويطمع ، فيكون بذلك{[127]} من الضالين ، فيكون في ذلك التعوذ من جميع أنواع الذنوب ، والاستهداء إلى كل أنواع البر .
[ القول في التسمية ]{[128]}
ثم التسمية هي آية من القرآن ، وليس [ من ]{[129]} فاتحة القرآن . دليل جعلها آية [ ما ]{[72]} روي عن النبي ( ص ) أنه قال لأبي بن كعب رضي الله عنه : " لأعلمنك آية لم تنزل على أحد قبلي إلا على سليمان بن داود{[73]} ، ، فأخرج [ من المسجد ]{[74]} إحدى قدميه ، ثم قال : بأي [ آية تفتتح بها القرآن ]{[75]} ؟ قال : ( بسم الله الرحمان الرحيم ) فقال : هي هي " [ بنحوه : البخاري 4474 ] .
ففي هذا [ دليل ]{[76]} أنها آية من القرآن ، وأنها لو كانت من السور لكان يعلمه نيفا ومائة آية لا آية واحدة . ولو كانت منها أيضا لكان لا يجعلها مفتاح القرآن ، بل يجعلها من السور .
ثم الظاهر أن من لم يتكلف تفسيرها عند ابتداء [ السور يثبت ]{[77]} أنها ليست منها . ولذلك{[78]} ترك الأمة الجهر بها على العلم بأنه لا يجوز أن يكون رسول الله ( ص ) يجهر بها ، ثم يخفى ذلك على من معه ، وأن يكونوا غفلوا{[79]} ، ثم يضيعون سنة بلا نفع يحصل لهم ، حتى توارثت الأمة تركها في ما لا يحتمل أن يكون الجهر سنة ، ثم يخفى ، فيكون في فعل الناس دليل واضح أنها ليست من السور .
ودليل آخر على ذلك ما روي عن رسول الله ( ص ) عن الله تعالى أنه قال : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ؛ فإذا قال العبد{[80]} : ( الحمد لله رب العالمين ) ( الرحمان الرحيم ) ( مالك يوم الدين ){[81]} [ الفاتحة : 1و2و3 ] [ قال الله ]{[82]} : " هذا لي " [ مسلم 395/40 ] وهي ثلاث آيات ، وقال بعد قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ]{[83]} [ الفاتحة 5 و6 و7 ] [ قال الله ]{[84]} : " هذا لعبدي " ثبت أنها ثلاث آيات لتستوي القسمة . ثم قال في قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 4 ] " هذا بيني وبين عبدي نصفين " [ مسلم 395/40 ] فثبت أنها آية واحدة . فصارت بغير التسمية سبعا . وذلك قول الجميع : إنها سبع آيات مع ما لم يذكر في خبر القسمة . فثبت أنها دونها سبع آيات .
وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه [ قال ]{[85]} : صليت خلف رسول الله ( ص ) وخلف أبي بكر [ الصديق ]{[86]} وعمر وعثمان رضوان الله عليهم فلم يكونوا يجهرون ب ( بسم الله الرحمان الرحيم ) وروي ذلك عن علي [ بن أبي طالب ]{[87]} رضوان الله عليهم وعبد الله بن عمر وجماعة [ من الصحابة – رضوان الله عليهم- ]{[88]} وهو الأمر المعروف في الأمة مع ما جاء في قصة السحر أن العقد كانت إحدى عشرة ، وقرأ عليها المعوذتين دون التسمية . فكذا خبرها من السور مع ما إذا{[89]} جعلت مفتاحا كانت كالتعوذ . والله الموفق .
والأصل عندنا أن المعنى الذي تضمنته فاتحة القرآن فرض على جميع البشر ؛ إذ فيه الحمد [ لله ]{[90]} والوصف له بالمجد والتوحيد له ، والاستعانة به ، وطلب الهداية ، وذلك/2-ب/ كله يلزم كافة العقلاء من البشر ؛ إذ فيه معرفة الصانع على ما هو معروف ، والحمد على ما هو معروف ، والحمد له على ما يستحقه . إذ هو المبتدئ بنعمه على جميع خلقه ، وإليه فقر كل عبد ، وحاجة كل محتاج . فصارت لنفسها بما جمعت الخصال التي بينا فريضة على عباد الله .
ثم{[91]} ليست هي في حق الصلاة فريضة ، وذلك نحو التسبيحات بما فيها من تنزيه الله ، والتكبيرات بما فيها من تعظيمه فريضة لنفسها ؛ إذ ليس لأحد ألا ينزه ربه ، ولا يعظمه من غير أن يوجب ذلك فريضتها .
ثم ليست هي [ بفريضة في حق ]{[92]} القراءة [ في الصلاة لوجوه :
أحدها : أن فريضة{[93]} القراءة ]{[94]} عرفناها {[95]} بقوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] وفيها الدلالة من وجهين :
أحدهما : أنه قد يكون غيرها أيسر
والثاني : [ أن فريضة ]{[96]} القراءة من حيث الامتنان بالتخفيف علينا والتيسير ، ولو لم تكن فريضة لم يكن علينا في التخفيف منة [ إذ لنا الترك ، ثم لا تخير ]{[97]} في فاتحة القرآن ، والآية التي بها عرفنا [ الفريضة ، فيها ]{[98]} تخير ما يختار من الأيسر . ثبت أنها رجعت إلى غيرها . وبالله التوفيق .
والثاني : أن نبي الله أخبر عن الله تعالى أنه جعلها{[99]} في حق الثناء ، وهو ما ذكر في خبر القسمة ، فصارت تقرأ بذلك الحق ، فلم يخلص لها حق القراءة ، بل الحق بها حق الدعاء والثناء ، وليس ذلك من فرائض الصلاة ، وبالله التوفيق .
والثالث : ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( ص ) أحيى ليلة بقوله : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) [ الآية ]{[100]} [ المائدة : 118 ] به كان يقوم ، وبه كان يركع ، وبه يسجد ، وبه يقعد . فثبت أنه لا تتعين قراءتها في الصلاة مع ما أيده الخبر الذي فيه : " أن ارجع فصل فإنك لم تصل " [ البخاري 757 ] إذ{[101]} قال له وقت التعليم : " اقرأ ما تيسر عليك " [ البخاري : 756 ] فثبت أن المفروض ذلك .
وأيضا روي عن رسول الله ( ص ) أنه قال : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " [ البخاري 756 ] ثم روي عنه بيان محلها : " إن كل صلاة لم تقرأ فيها{[102]} بفاتحة الكتاب فهي خداج ؛ نقصان غير تمام " [ مسلم 395/38 ] والفاسد لا يوصف بالنقصان ، وإنما الموصوف بمثله ما جاز مع النقصان . وبالله التوفيق .
ثم خص فاتحة الكتاب بالتأمين بما سمي بالذي ذكره خبر القسمة وغير الفاتحة ، وإن كان فيه الدعاء فإنه لم يخص بهذا الاسم . لذلك لم يجهر به . فالسبيل فيه ما ذكرنا في التسمية مع ما كان هو أخلص بمعنى الدعاء منها .
ثم السنة في جميع الدعوات المخافتة . والأصل أن كل ذكر يشترك فيه الإمام والقوم فسنته المخافتة لحاجة الإعلام . وهذا يعم{[103]} قوله : ( ولا الضالين ) فيزول معناه . وسبيل{[104]} مثله المخافتة مع ما جاء به مرفوعا ومتواترا{[105]} . وخبر الجهر يحتمل السبق كما كان يسمعهم في صلاة النهار أحيانا ، ويحتمل الإعلام أنه كان يقرأ به ، وبالله التوفيق .
ثم جمعت هذه خصالا من الخير . ثم كل خصلة منها تجمع{[106]} جميع خصال الخير .
منها أن في الحرف الأول من قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) شكرا لجميع النعم ، وتوجيها{[107]} لها إلى الله ، لا شريك له ، ومدحا له بأعلى ما يحتمل [ المدح ]{[108]} وهو ما ذكرنا من عموم نعمه وآلائه جميع{[109]} بريته .
ثم فيه الإقرار بوحدانيته في إنشاء البرية كلها ، وتحقيق الربوبية له عليها بقوله تعالى ( رب العالمين ) وكل واحد منها مما{[110]} يجمع خصال خير الدارين ، ويوجب للقائل{[111]} به عن صدق القلب درك الدارين .
ثم الوصف لله عز وجل بالاسمين يتعالى عن أن يكون لأحد معناهما حقيقة ، أو يجوز أن يكون منه الاستحقاق{[112]} نحو الله والرحمن .
ثم الوصف له{[113]} بالرحمة التي بها{[114]} نجاة كل ناج ، وسعادة كل سعيد ، وبها يتقي المهالك كلها مع ما من رحمته خلق الرحمة التي بها تعاطف بينهم ، وتراحمهم .
ثم الإيمان بالقيامة بقوله تعالى : ( مالك يوم الدين ) مع الوصف [ له ]{[115]} بالمجد وحسن الثناء عليه .
ثم التوحيد [ وما ]{[116]} يلزم العباد من إخلاص العبادة له والصدق فيها مع{[117]} جعل كل رفعة وشرف منالا به عز وجل .
ثم رفع جميع الحوائج إليه والاستعانة به على قضائها والظفر بها على طمأنينة القلب وسكونه ؛ إذ لا خيبة عند معونته ، ولا زيغ عند عصمته .
ثم الاستهداء إلى ما يرضيه ، والعصمة عما يغويه في حادث الوقت على العلم بأنه لا ضلال لأحد مع هدايته ، في التحقيق الرجاء والخوف من الله لا من غيره . وعلى ذلك جميع معاملات العباد ومكاسبهم على الرجاء من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سببا ، به يصل إلى مقصوده ، ويظفر بمراده ، ولا قوة إلا بالله{[118]} .
وقوله تعالى : ( وإياك نستعين ) فذلك طلب المعونة من الله تعالى على [ قضاء جميع حوائجه ]{[119]} دينا ودنيا . ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى الله تعالى بقوله : ( إياك نعبد ) على طلب التوفيق لما أمر به والعصمة عما حذره عنه . وكذلك الأمر البين في الخلق من طلب التوفيق والمعونة من الله تعالى والعصمة عن المنهي عنه ، جرت به سنة الأخيار ، والله الموفق .
ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة لأن تلك المعونة على أداء ما كلف [ المرء ]{[120]} قد أعطي ؛ إذ على قولهم : لا يجوز أن يكون مكلفا ، وقد بقي شيء مما به أداء [ ما كلف ]{[121]} عند الله ، وطلب ما أعطي ، وكتمان{[122]} العطية كفران ، فيصير كأن الله تعالى آمر أن يكفر [ المرء ]{[123]} نعمه ، ويكتمها ، ويطلبها منه تعنتا . وظن مثله بالله عز وجل كفر .
ثم لا يخلو من أن يكون عند الله ما يطلب ، فلم يعطه التمام إذن ، أو ليس عنده ، فيكون طلبه استهزاء به ؛ إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده ، فهو هازئ به في العرف ، مع ما كان الذي يطلب : إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف ، فيبطل قولهم : إذ لا يجوز أن يكلف ، وعنده ما به الصلاح في الدين ، فلا يعطي ، أو ليس له أن يعطي ؛ فكأنه قال : اللهم لا تجُرْْ {[124]} . ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به .
وهذا مع ما كان لا يدعو الله أحد بالمعونة إلا ويطمئن قلبه أنه لا يذل عند المعونة ، ولا يزيغ{[125]} عند العصمة . وليس مثله يملك الله{[126]} عند المعتزلة ، ولا قوة إلا بالله .
وقد روي عن النبي ( ص ) أنه قال في خبر القسمة : " الله تعالى يقول : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " [ مسلم395/40 ] وذلك يحتمل أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها{[127]} جميعا : الفزع إلى الله تعالى بالعبادة والاستعانة ورفع{[128]} الحاجة إليه وإظهار غناه-جل وعلا- عنه . فيتضمن ذلك الثناء عليه وطلب الحاجة إليه .
ويحتمل أن يكون الحرف الأول : لله بما فيه عبادته وتوحيده . والثاني : للعبد بما فيه طلب معونته وقضاء حاجته . ويؤيد ذلك بقية السورة إنه أخرج على الدعاء .
وقال{[129]} الله عز وجل : " هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل " [ مسلم 395/40 ]