روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

لما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إيا في المشهور ضمير نصب منفصل واللواحق حروف زيدت لبيان الحال ، وقيل أسماء أضيف هو إليها ، وقيل الضمير هي تلك اللواحق وإيا دعامة ، وقيل الضمير هو المجموع ، وقيل إيا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق ، وزعم أبو عبيدة اشتقاقه وهو جهل عجيب والبحث مستوفى في علم النحو ، وقد جاء وياك بقلب الهمزة واواً ولا أدري أهو عن القراء أم عن العرب ، وقرأ عمرو بن فائد عن أبيّ ( إياك ) بكسر الهمزة وتخفيف الياء وعلى وأبو الفضل الرقاشي ( أياك ) بفتح الهمزة والتشديد وأبو السوار الغنوي ( هياك ) بإبدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء والجمهور ( إياك ) بالكسر والتشديد ، والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً فعلها إلا لله تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه مولياً لأعظم النعم من الحياة والوجود وتوابعهما ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء وهو التراب وموطئ الأقدام والنعال غاية الخضوع وقيل لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه وما ورد من نحو قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 8 9 ] وارد على زعمهم تعريضاً لهم ونداء على غباوتهم وتستعمل بمعنى الطاعة ومنه : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } [ يس : 0 6 ] وبمعنى الدعاء ومنه : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } [ غافر : 0 6 ] وبمعنى التوحيد ومنه : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 6 5 ] وكلها متقاربة المعنى وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات( {[98]} ) لأنه إما أن يعبد الله تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أدوم وأشرف ، وهذه مرتبة نازلة عند أهل الله تعالى ، وتسمى عبادة ، وإما أن يعبد الله تعالى تشرفاً بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالانتساب إليه ، وهذه مرتبة متوسطة ، وتسمى بالعبودية( {[99]} ) وإما أن يعبد الله تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا يقتضيه إلا الخضوع والذلة ، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودة وإليه الإشارة بقول المصلي أصلي لله تعالى فإنه لو قال أصلي لثوابه تعالى مثلاً أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته .

والاستعانة طلب المعونة وياء فعله منقلبة عن واو وتمسكت الجبرية والقدرية بهذه الآية أما الجبرية فقالوا : لو كان العبد مستقلاً لما كان للاستعانة على الفعل فائدة ، وأما القدرية فقالوا السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكناً في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير ، أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للاستعانة فائدة ، وقد أشار ناصر الملة والدين البيضاوي بيض الله تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك حيث قال : وهي إما ضرورية أو غيرها ، والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يصح أن يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف انتهى .

وحاصله أن الاستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر .

وعندي أن الآية إن استدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن للعباد قدراً مؤثرة بإذن الله تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس لهم قدرة أصلاً بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية ؛ إذ الضرورية تكذبه ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبداً كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة إذ هو في المآل كقول الجبرية وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ولا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاءوا ، فالله تعالى يريد ما لا يفعله العبد ويفعل العبد ما لا يريده الله تعالى كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع كما ستسمعه إن شاء الله تعالى ، ووجه الاستدلال أن { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } مشير إلى صدور الفعل من العباد وذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد ومن لا قدرة له أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد لا يقال له أوجد وصحة ذلك باعتبار الكسب كيفما فسر لا يرتضيه المنصف العاقل . وقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على نفي الاستقلال فيه وأنه بإذن الله تعالى وإعانته كما يشير إليه لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم فلا جبر ولا تفويض فاحفظه وانتظر تتمته .

ولو كان هذا موضع القول لاشتفى *** فؤادي ولكن للمقال مواضع

وههنا أبحاث : الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين ، وذكروا له وجوهاً الدلالة على الحصر والاختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه لا نعبد غيرك ، وهو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب والمقصود منه التبرئة عن الشرك وتعريض بالمشركين وتقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتاً فقم وضعاً ليوافق الوضع الطبع . وتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يميناً وشمالاً ، والاهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لا سيما حال العبادة لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة والتصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى .

والإشارة إلى حال العارف وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ، وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة تغد به عليه فيبقى مستغرقاً في مشاهدة أنوار جلاله مستقراً في فردوس أنوار جماله وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] وبين قوله للإسرائليين : { اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] وبين ما حكى عن الحبيب من قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } [ التوبه : 0 4 ] وبين ما حكاه عن الكليم من قوله : { إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 2 6 ] .

الثاني : في سر قوله { نَعْبُدُ } دون أعبد ، فقد قيل هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول : إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ، ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة ، وقيل : النكتة في العدول إلى الإفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا حياتاً ولا موتاً ولا نشوراً ، ويا ليت الفحل يهضم نفسه ، فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالإفراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين ، وقيل : لو قال إياك أعبد لكان ذلك بمعنى : أنا العابد ولما قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } كان المعنى أني واحد من عبيدك ، وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام : { سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 2 10 ] وقوله تعالى : حكاية عن موسى { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا } [ الكهف : 69 ] فصبر الذبيح لتواضعه بعدِّ نفسه واحداً من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلاً منهما عليهما السلام قال { إِن شَاء الله } وقيل : الضمير في الفعلين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة ، وقيل هو من باب : «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ » على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم .

الثالث : في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة وله وجوه :

الأول : أن العبادة أمانة كما قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } [ الأحزاب : 2 7 ] فاهتم للأداء فقدم .

الثاني : أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما صدر عنه فعقبه بقوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه . الثالث : أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم .

الرابع : أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة .

الخامس : أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة ، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه .

السادس : أن العبادة واجبة حتماً لا مناص للعبادة عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم .

السابع : أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاماً بطلب الهداية .

الثامن : أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ .

التاسع : أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رءوس الآي .

العاشر : أن أحدهما إذا كان مرتبطاً بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي .

الحادي عشر : أن مقام السالكين ينتهي عند قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وبعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى { رَبّ العالمين } فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقراً إلى المبقى محتاجاً إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي ، فنادت بلسان الاضطرار في مقام { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 6 1 ] أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] فطلب التمكين بقوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } واستعاذ عن التلوين بقوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين } فصعد مستكملاً ورجع مكملاً وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين ،

البحث الرابع : في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة ، وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع ، فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيب حضوراً ، وقيل : لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى رتبة الإحسان وهو : «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وأيضاً حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره الإحسان وفي { نَعْبُدُ } والالتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضاً لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى والله تعالى حي كريم .

وقيل : إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضوراً بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام : { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين } [ الأنعام : 6 7 ] لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضاً من تشبه بقوم فهو منهم ، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوباً في عدادهم مندرجاً في سياقهم :

إن لم تكونوا منهم فتشبهوا*** إن التشبه بالكرام فلاح

وأيضاً فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيداً عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئاً على بساط الاقتراب فائزاً بعز الحضور وسعادة الخطاب . وأيضاً إنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم ، ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال ، مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط :

حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي*** فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

وأيضاً إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم وأما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 5 11 ] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصراً في خطابه ، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة ، وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق ، وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان ، وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤوس الخطاب ، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين .

/خ5

هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلاً عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتاً واحداً ، وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقاً فإن كان التقدير قولوا الحمد لله ففي الكلام المأمور به التفاتان ، أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر ، والثاني في { إِيَّاكَ } لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في { إِيَّاكَ } التفات لتقدير قولوا معها قطعاً فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلاً ، هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في «الكشاف » لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات ، وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى . وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم .

البحث الخامس : في سر تكرار { إِيَّاكَ } فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى ، فإنه لو قال سبحانه : إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخباراً بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه . وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو ، وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيداً إذا لم يكن معمولاً لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيداً ، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة ، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال : إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه .

البحث السادس : في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض ، وأيضاً قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي ، وقال صاحب «الكشاف » : الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى : { اهدنا } بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل : كيف أعينكم ؟ فقالوا : اهدنا الصراط المستقيم ، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى ، ووجه التخصيص حينئذٍ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس . { إِنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } [ يوسف : 3 5 ] والقرينة مقارنة العبادة ، ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمناً لما ذكر معارض بنكتة التخصيص ، والرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل ، والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ، ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولاً أولياً أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله . وأيضاً طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها . وأيضاً لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذاً توافق الاستعانة في العموم . وأيضاً قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مطلق شامل كل إنعام ، وأيضاً لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحداً يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس : «إذا استعنت فاستعن بالله » الحديث وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب ، فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم ، أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير ؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله ، فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه :

إليك وإلا لا تشد الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمل خائب

وفيك وإلا فالغرام مضيع *** وعنك وإلا فالمحدث كاذب

وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي ( نعبد ) بكسر النون وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الباء لاستثقال الكسرة عليها ، على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل ، وقرأ بعضهم يعلمون ، وقرأ الحسن وابن المتوكل وأبو محلف يعبد بالياء مبنياً للمفعول ، وهو غريب ، وعن بعض أهل مكة أنه قرأ ( نعبد ) بإسكان الدال وقرأ الجمهور ( نعبد ) بفتح النون وضم الدال وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى .


[98]:وبما ذكرنا سقط ما قبل أن العبادة إذا كانت أعلى مراتب الخضوع يلزم أن لا يكون أكثر المؤمنين عابدين اهـ منه.
[99]:والإمام الرازي في التفسير لم يضع للثانية اسما وسمى الثالثة بالعبودية اهـ منه.