الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

«إيا » ضمير منفصل للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك : إياك ، وإياه ، وإياي ، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب ، كما لا محل للكاف في أرأيتك ، وليست بأسماء مضمرة ، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون ، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب » فشيء شاذ لا يعوّل عليه ، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، كقوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] ، { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } [ الأنعام : 164 ] . والمعنى نخصك بالعبادة ، ونخصك بطلب المعونة . وقرىء : " إياك " بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء . قال طفيل الغنوي :

فهَيَّاكَ والأَمْرَ الَّذِي إن تَرَاحَبَتْ *** مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُه

والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل . ومنه : ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع . فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟ قلت : هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] . وقوله تعالى : { والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ } [ فاطر : 9 ] . وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات :

تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالأَثْمَدِ *** ونَامَ الخَلِيُّ ولَم تَرْقُد

وبَاتَ وباتَتْ لَهُ لَيْلةٌ*** كلَيْلَةِ ذِي العائرِ الأرْمَدِ

وذلك مِنْ نَبَإ جَاءَني*** وخبِّرْتُهُ عنْ أَبي الأَسوَدِ

وذلك على عادة افتتانهم في الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختص مواقعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات ، فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، لا نعبد غيرك ولا نستعينه ، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به . فإن قلت : لم قرنت الاستعانة بالعبادة ؟ قلت : ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته . فإن قلت : فلم قدّمت العبادة على الاستعانة ؟ قلت : لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها . فإن قلت : لم أطلقت الاستعانة ؟ قلت : ليتناول كل مستعان فيه ، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ، ويكون قوله : { اهدنا } بياناً للمطلوب من المعونة ، كأنه قيل : كيف أعينكم ؟ فقالوا : اهدنا الصراط المستقيم ، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض . وقرأ ابن حبيش : " نستعين " ، بكسر النون .