الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

" إياك " مفعولٌ مُقدَّمٌ على " نَعْبُدُ " ، قُدِّم للاختصاصِ ، وهو واجبُ الانفصالِ . واختلفوا فيه : هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ ، وقال الزجاج : " هو اسم ظاهر " ، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو .

والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال ، أحدُها : أنه كلَّه ضميرٌ . والثاني : أن : " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب ، وثالثُها : أن " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به . ورابعها : أنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضمير ، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم : " إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ " بإضافة " إيا " إلى الشَوابِّ ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت : إياك إياه إياي .

وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً ، ثم قال : هل هو مشتقٌ من " أَوّ " كقول الشاعر :

فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو من " آية " كقوله :

لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا ؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء .

وفيه لغاتٌ : أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها . قال الشاعر :

فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ *** مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ

[ وقال بعضهم : إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه ] ، لأنه يصير " شمسَك نعبد ، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة ، وقد تُفتح ، وقيل : هي لها بمنزلة الهالة للقمر ، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ ، قال :

سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه *** أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ

وقد قُرئ ببعضها شاذاً ، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به .

ونعبُدُ : فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم ، وقيل : لوقوعِه موقعَ الاسم ، وهذا رأيُ البصريين ، ومعنى المضارعِ المشابِهُ ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان ، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة .

والعِبادة غاية التذلل ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى ، فهي أبلغُ من العبودية ، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل ، ويقال : طريق مُعَبَّد ، أي مذلَّل بالوطء ، قال طرفة :

تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ *** وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ

ومنه : العبدُ لذلَّته ، وبعيرٌ مُعَبَّد : أي مُذَلَّل بالقَطِران .

وقيل : العبادةُ التجرُّدُ ، ويُقال : عَبَدْت الله بالتخفيف فقط ، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط : أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً .

وفي قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل : الحمد الله ، ثم قيل : إياه نعبدُ ، والالتفاتُ : نوع من البلاغة . ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، ولم يقل : بكم . وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله :

تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِ *** وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ

وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ *** كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ

وذلك من نبأٍ جاءني *** وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ

وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات ، وقال : بل هما التفاتان ، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله : " ليلُك " إلى الغيبة في قوله : " وباتَتْ له ليلةٌ " ، والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله : " من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه " . والجواب أن قوله أولاً : " تطاول ليلُك " فيه التفاتٌ ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ : تطاول ليلي ، لأنه هو المقصودُ ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ .

وقُرئ شاذاً : " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِه للمفعول الغائبِ ، ووجهُها على إشكالها : أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً ، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع ، والأصل : أنت تُعْبَدُ ، وهو شائعٌ كقولهم : عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال ، وقول الآخر :

يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا *** وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا

فالكاف في " عَصَيْكا " نائِبةٌ عن التاء ، والأصل : عَصَيْتَ . وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ : إياك تُعْبَدُ بالخطابِ ، ولكنه التفتَ من الخطاب في " إيَّاك " إلى الغيبة في " يُعْبَدُ " ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب ، لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم . ونظيرُ هذا الالتفات قوله :

أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً *** سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ

فقال : " به " بعد قوله : " أنت وكنت " .

و " إيَّاك " واجبُ التقديمِ على عاملهِ ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه ، وتحرَّزوا بقولهم : " لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ " من نحو : " الدرهمَ إياه أعطيتُك " لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت : " الدرهمَ أعطيتُك إياه " لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي ، بل يجوز : أعطيتُكه .

والكلام في " إياك نَسْتعين " كالكلام في " إياك نعبدُ " والواو عاطفة ، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى ، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين . ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى .

وأصل نَسْتعين : نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ ، لأنه من العَوْنِ ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها ، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً . وهذه قاعدةٌ مطردَة ، نحو : ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت .

والسينُ فيه معناها الطلبُ ، أي : نطلب منك العَوْنَ على العبادة ، وهو أحدُ المعاني التي ل استفعل ، وله معانٍ أُخَرُ : الاتخاذُ نحو : استعْبَدَه أي : اتخذه عبداً ، والتحول نحو : استحْجَرَ الطين أي : صار حَجَراً ، ومنه قوله : " إن البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر " ، أي : تتحوَّل إلى صفة النسور ، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه ، نحو : استعظَمه أي وجدَه عظيماً ، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ ، نحو : استحسنه ، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو : أَشْلاه فاستشلى ، وموافقتُه له أيضاً نحو : أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ ، وموافقةُ تفعَّل ، نجو : استكبرَ بمعنى تكبَّر ، وموافقةُ افتَعَلَ نحو : استعصمَ بمعنى اعتصم ، والإِغناءُ عن المجردِ نحو : استكفَّ واستحيى ، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه ، وللإِغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو : استرجع واستعانَ ، أي : رَجَع وحَلَق عانَتَه .

وقرئ " نِسْتعين " بكسر حرفِ المضارعةِ ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة ، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء ، لثقلِ ذلك . على أن بعضهم قال : يِيجَل مضارع وَجِلَ ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ ، وقد قرئ : { فإنهم يِيْلمونَ } [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو : تِعْلم من عَلِمَ ، أو في أوله همزة وصل نحو : نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو : نِتَعلَّم من تَعَلَّم ، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة . ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها ، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد : فكيف تصنعون ؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد ، فقالت : بلى ، نِكْتَني ، وكَسَرتِ النونَ ، فقال : لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى .

والاستعانة : طلبُ العَوْن ، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة ، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ ، عليه ، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو : { كُلوا واشربوا } [ البقرة : 60 ] ، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ .