قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين }
إِيَّاكَ : كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر ، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل . وإيَّاكَ أَسْأَلُ ؛ ولا يُسْتَعملُ مؤخراً إلاّ منفصلاً ؛ فيُقالُ ، ما عنيتُ إِلاَّ إِيَّاك .
وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على " نعبد " قُدِّم للاختصاصِ ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ .
واخْتلَفُوا فيه : هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة ؟ فالجمهورُ : على أنه مُضْمَرٌ .
وقال الزَّجَّاجُ{[271]} رحمه الله تعالى : هو اسمٌ ظاهر .
والقائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ :
والثاني : عَلَى أَنَّ " إِيَّا " وَحْدَهُ ضَمِيرٌ ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [ من تكلّم وغيبة وخطابِ ] .
وثَالِثُها : أَنَّ " إِيَّا " وحده ضميرٌ ، وما بعده حُرُوفٌ تبين{[272]} ما يُرادُ به [ من تكلم وغيبة وخطاب ]{[273]} .
ورابعُها : أَنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضميرُ ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم : " إذا بلغ الرَّجُلَ السِّتِّينَ ، فإياه وإِيَّا الشَّواب " بِإِضَافَةِ " إِيَّا " إلى " الشواب " ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ ، والهاء ، والياء في محلّ جر ، إِذا قُلْتَ : " إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ{[274]} " وقد أَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ ، فجعل له اشْتِقاقَاً ، ثُمَّ قال : هَلْ هو مشتقٌّ من " أَوَّ " ؛ كقول الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
62- فَأَوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا- *** - . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[275]}
أَوْ منْ " آيَة " ؛ كقوله [ الرجز ]
63- لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ-{[276]} *** -
وهل وَزْنُه : " إفْعَل ، أو فَعِيل ، أو فَعُول " ثم صَيرَّه التصريفُ إلى صِيغةِ " إِيَّا " ؟ وهذا الذي ذكره لا يُجدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلاَن في المتوغِّلِ في البناءِ وفيه لُغاتٌ : أَشْهرُها : كَسْرُ الهمزةِ ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ ، ومنها ، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالُها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفهَا ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
64- فَهَيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ- *** -مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ{[277]}
وقال بعضُهم : " إِيَّاكَ " بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه ؛ لأنه يَصِيرُ : " شَمْسَك نعبد " ؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ : ضَوْؤُها - بكسر الهَمزةِ ، وقد تُفْتَحُ . وقيل : هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر ، فإذا حذفت التاءَ ، مَدَدْتَ ؛ قال : [ الطويل ]
65- سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاتِهِ- *** -أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ{[278]}
وقد قٌرِئ{[279]} ببعضِهَا شَاذًّا .
وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسع لا يحتمله هذا الكتاب ، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به .
و " نَعْبُدُ " فعلٌ مضارعٌ مرفوع ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازمِ ، وقِيل : لوقوعِه موقعَ الاسمِ ، وهذا رأْيُ البصريين .
ومعنى المضارع المشابه ، يعني : أنه أشبه{[280]} الاسمَ في حركاتِهِ ، وسكناتِه ، وعدَدَ حُرُوفِهِ ، أَلاَ تَرَى أَنَّ " ضَارِباً " يُشْبه " يَضْرِب " فيما ذكرت ، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ ، ويختص في الأَشْخاصِ ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مَرّ في الاستعاذة .
والعبادَةُ : غايةُ التذللِ ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفْضَالِ ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُوديةِ ؛ لأن العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ ، ويُقالُ : طريقٌ مُعَبَّدٌ ، أَيْ : مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه . وقال طَرَفَة{[281]} في ذلك : [ الطويل ]
66- تُبَارِي عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ- *** -وَظِيفاً وظيفا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ{[282]}
ومنه : العَبْدُ ؛ لِذلَّتِهِ ، وبَعيرٌ معبَّدٌ : أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطِرَان .
وقيل : العبادةُ التَّجَرُّدُ ، ويُقالُ : عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجلَ - بالتشديدِ فقط ، أَيْ : ذللتُه ، واتخذتُه عبداً .
وفي قوله تعالى : " إِيَّاكَ نَعْبُد " التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ ، إِذْ لو جرى الكلامُ على أصله ، لَقِيل : الحمد لله ، ثم قيل : إِيَّاهُ نَعبدُ ، والالتفاتُ : نوعٌ مِن البلاغَةِ .
قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله - : والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه :
أحدُها : أن المصلِّي كان أَجْنَبِيًّا عند الشروعِ في الصَّلاةِ ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة ، إلى قوله : " يَوْمِ الدِّينِ " ، ثم إنه تعالى كأنه قال له : حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً ، ربًّا ، رحماناً ، رحيماً ، مالكاً ليوم الدين ، فَنعْمَ العبدُ أنت ، فرفعنا الحجابَ ، وأبدلنا البُعدَ بالقُرْبِ ، فتكلّم بالمخاطبة وقل : إياك نعبد .
الثاني : أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ ، [ والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِل ]{[283]} على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ .
ومن الالتفَاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى :{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ولم يَقُلْ : " بكم " ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله : [ المتقارب ] .
67- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ- *** -وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ- *** -كَلَيْلَةِ ذِي العَائِرِ الأَرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي- *** -وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ{[284]}
وقد خَطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رحمه الله تعالى - في جَعْلِه هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ ، وقال : بل هما التفاتان :
أحدُهما : خُروجٌ مِنَ الخطابِ المفتتح به في قولِهِ : " لَيْلُك " ، إلى الغَيْبَةِ في قوله : " وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ " .
والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلُّم ، في قولِه : " مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ " .
والجوابُ : أَنَّ قولَه أَوّلاً : " تَطَاوَلَ لَيْلُك " فيه التفاتٌ ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ : " تطاول لَيْلِي " ؛ لأنه هو المقصودُ ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبةِ ، ثُمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل .
وقُرِئ شاذًّا{[285]} : " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِهِ للمفعول الغائبِ ؛ ووجهُهَا على إِشْكالِهَا : أن فيها استعارةً والتفاتاً :
أما الاستعارةُ : [ فإنه اسْتُعِير ]{[286]} فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْعِ ، والأصل : أنت تُعْبَد ، وهو شائع ؛ كقولِهم : " عَسَاكَ ، وعَسَاهُ ، وعَسَانِي " في أحدِ الأقوالِ ؛ وقول الآخر : [ الرجز ]
68- يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا- *** -وَطَالَمَا عَنَّيْتَنَا إِلَيْكَا{[287]}
فالكافُ في " عَصَيْكَا " نائبةٌ عن التاءِ ، والأصل : " عَصَيْتَ " .
وأما الالتفاتُ : فكان من حَقِّ هذا القارىء أَنْ يَقْرأَ : " إِيَّاكَ تُعْبَدُ " بالخطابِ ، ولكنه التفت من الخطاب في " إِيَّاكَ " إلى الغَيْبَةِ في " يُعْبَدُ " إلاّ أن هذا الالتفاتَ غَرِيبٌ ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه : [ الطويل ]
69- أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً- *** -سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ{[288]}
فقال : " بِهِ " بعد قوله : " أَنْتَ " و " كُنْتَ " .
و " إيَّاكَ " واجبُ التقديم على عامله ؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهَ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ .
وتَحَرَّزُوا بقولِهِم : " لو تأَخَّرَ عنه وجب اتصالُه " ، من نحو : " الدرهم إياه أعطيتك " لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ : " الدِّرْهَمُ أَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ " لم يَلْزم الاتصالُ ، لما سيأتي بل يجوزُ : " أعطيتكَهُ " .
قال ابنُ الخَطِيب{[289]} رحمه الله تعالى : العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرضِ تَعْظِيم الغَيْرِ ، من قولهم : طريقٌ مُعبَّدٌ ، أَيْ : مذلّلٌ ، فقوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، معناه : لا أعبد أحداً سواك ، ويدلّ على هذا الحصر وجوه :
فَذَكَر من جملتها : تسميَة الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، ومالك يوم الدين ، وكونَهُ قادراً بأن يُمْسِكَ السّماءَ بلا إعانة ، وأَرْضاً بلا دِعَامة ، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر ، ويسكن القُطْبَيْن ، ويخرجُ من السَّماءِ تارة النَّارَ ؛ وهو البرق ، وتارة الهواءَ ؛ وهو الريح ، وتارة الماء ؛ وهو المطر .
وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ ؛ وتارةً يخْرج الحجرَ من الماء ؛ وهو الجمد ، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر ؛ [ وهي الجبال ]{[290]} ، وأجساماً مسافرة لا تقيم ؛ وهي الأنهار ، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ ، ودفع محمداً - عليه الصلاة والسلام - إلى قَاب قَوْسَيْن ، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون ؛ لقوله :
{ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] ، وجعل النارَ بَرْداً وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ ، وجعل البحر يبساً لموسى - عليه الصلاة والسلام - فهذا من أداة الحَصْرِ .
والكلام في " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " كالكَلاَمِ في " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " .
والواو : عاطِفَةٌ ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى ، ولا تقتضى تَرْتِيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكُوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى .
وأصل " نَسْتَعِين " : " نَسْتَعْوِنُ " ؛ مَثْلُ : " نَسْتَخْرِجُ " في الصحيح ؛ لأنه من العَوْنِ ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ ، فنقلت إلى السَّاكن قَبْلَها ، فسكنت الواوُ بعد النَّقْلِ وانكَسَر ما قبلها ؛ فَقُلِبَتْ ياءً .
وهذه قاَعِدَةٌ مطّردَةٌ ؛ نَحْوُ : " مِيزَان ، ومِيِقَات " ، وهما من : الوَزْنِ ، والوَقْتِ .
والسِّينُ فيه معناها : الطلبُ ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ ، وهو أحد المعاني التي ل " استفعل " وله مَعََانٍ أُخَرٌ :
الاتخاذُ : نحو : " اسْتَعْبِدْهُ " أي : اتخذْهُ عبداً .
والتحولُ ؛ نحو : " اسْتَحْجَرَ الطِّينُ " أَيْ : صار حجراً ، ومنه قوله : " إِنَّ الْبُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ " أي : تتحولُ إلى صفة النُّسور .
ووجُودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه ؛ نحو : " اسْتَعْظَمَهُ " أَيْ : وجده عظيماً .
وعَدُّ الشَّيْء كذلك ، وإِن لم يكُنْ ؛ نحو : " اسْتَحْسَنَهُ " .
ومطاوعةُ " أَفْعَل " ؛ نحو : " أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى " .
وموافقتُه له أيضاً ؛ نحو : " أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ " .
وموافقةُ " تَفَعَّلَ " ؛ نحو : " اسْتَكْبَرَ " بمعنى " تكبر " .
وموافقةُ " افْتَعَلَ " ؛ نحو : " اسْتَعْصَمَ " بمعنى " اعْتَصَمَ " .
والإِغْنَاءُ{[291]} عن المجرد ؛ نحو : " اسْتَكَفّ " و " اسْتَحْيَا " ، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه .
والإِغْنَاءُ بهما عن " فَعَلَ " أي المجرد الملفوظ به نحو : " اسْتَرْجَعَ " و " استعان " ، أَيْ : رجع وحَلَق عانته .
وقُرئ{[292]} : " نِسْتَعينُ " بكسرْ حرف المضارعة ؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة .
وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً ؛ لثقل ذلك ، على أنَّ بعضَهُم قال : " ييجَلُ " ، مضارع " وجَلَ " ، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء ، فكسر ما قبلها لتنقلب ؛ وقد قُرِئ{[293]} : " فإنَهم ييلَمُون " [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إِنْ شاء الله تعالى .
وأن يكون المُضَارعُ من ماضٍ مكسورِ العَيْن ؛ نحو : " تِعْلَمُ " من " عَلِمَ " ، أو في أوله همزةُ وصلٍ ، نحو " نِسْتَعِينُ " من " اسْتَعَانَ " ، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ ؛ نحو : " نِتَعَلَّمُ " من " تَعَلَّمَ " ، فلا يجوزُ في " يضْربُ " و " يقتلُ " كسر حرف المُضَارعة ؛ لعدم الشُّروط المذكورة .
والاستعانَةُ : طلبُ العَوْنِ : وهو المُظَاهرة والنصرة ، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة .
وقال ابنُ الخَطِيبِ : كأنه يقولُ : شَرَعْتُ في العبادَةِ ، فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالمَوْتِ ، ولا بالمرضِ ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِهَا .
وقال البَغَوِيُّ - رحمه الله تعالى - فإن قِيل : لم قدم ذِكْرَ العِبَادةِ على الاستعانَةِ ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة ؟
قلنا : هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانَة قبلَ الفعل ، ونحن نَجْعلُ التوفِيقَ ، والاستعانَة مع الفعل ، فلا فرق بين التقديم والتأخير .
وقيل : الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً ، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً ؛ ليتناول كلَّ معبود به ، وكلَّ مُسْتَعان [ عليه ]{[294]} ، أَوْ يكون المرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول ؛ نحو :
{ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ }[ البقرة : 60 ] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ .
قال ابنُ الخَطِيْبِ{[295]} - رحمه الله تعالى - : قال تعالى : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فقدَّمَ قولَه : " إيَّاك " على قوله : " نعبد " ولم يقل : " نعبدك " لوجوه :
أحدُها : أنه - تبارك وتَعَالَى - قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ ؛ لينبه{[296]} العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم .
وثانيها : أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت ، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه : " إياك " ؛ لتذكرني ، وتحضر في قلبك معرفتي ، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي ، وعلمتَ أني مولاك ، وأنك عبدي ؛ سهلت عليك تلك العبادة .
وثالثها : أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على المحدث الممكن لذاته ، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار .
قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى - : لقائلٍ أَنْ يقولَ : النُّون في قوله تعالى : " نعبد " إما أن تكون نونَ الجمع ، أو نونَ العظمةِ ، والأول باطِلٌ ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعاً ، والثاني باطل أيضاً ؛ لأن عند أداء العبوديةِ ، اللاَّئق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْز والذّلة لا بالعَظَمَةِ .
واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه :
أحدها : أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان ، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة .
الثاني : أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة ، فقوله : " نعبد " ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ ، وإن كان يصلّي وحده كان المراد أني أعبدك ، والملائكةُ معي .
الثالث : أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ ، فلو قال : " إياك أعبدُ " كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه ، ولم يذكر عبادَةَ غَيْرِه ، أما إذا قال : " إياك نعبدُ " كان قد ذكر عبادَة نفسِه ، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً .