البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إياك } ، إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها ، فيكون ضمير نصب منفصلاً لا اسماً ظاهراً أضيف خلافاً لزاعمه ، وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده ؟ واللواحق حروف ، أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها ، أو اللواحق وحدها ، وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر ، أقوال ذكرت في النحو .

وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء ، وبها قرأ الجمهور ، وبفتح الهمزة وتشديد الياء ، وبها قرأ الفضل الرقاشي ، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وبها قرأ عمرو بن فائد ، عن أُبي ، وبإبدال الهمزة المكسورة هاء ، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء ، وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي ، وذهاب أبي عبيدة إلى أن إيا مشتق ضعيف ، وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو ، وإن كان إماماً في اللغات وأيام العرب .

وإذا قيل بالاشتقاق ، فاشتقاقه من لفظ ، أو من قوله :

فا ولذكراها إذا ما ذكرتها . . .

فتكون من باب قوة ، أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله :

لم يبق هذا الدهر من إيائه . . .

قولان ، وهل وزنه إفعل وأصله إ أو و أو إ أو ي أو فعيل فأصله أو يو أو او يي أو فعول ، وأصله إو وو أو اويي أو فعلى ، فأصله أووى أواويا ، أقاويل كلها ضعيفة ، والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو ، وإضافة إيا لظاهر نادر نحو : وإيا الشواب ، أو ضرورة نحو : دعني وإيا خالد ، واستعماله تحذيراً معروف فيحتمل ضميراً مرفوعاً يجوز أن يتبع بالرفع نحو : إياك أنت نفسك .

{ نعبد } ، العبادة : التذلل ، قاله الجمهور ، أو التجريد ، قاله ابن السكيت ، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف ، نحو : عبدت الرجل ذللته ، وعبدت الله ذللت له .

وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكل : إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول ، وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال .

وقرأ زيد بن علي ، ويحيى بن وثاب ، وعبيد بن عمير الليثي : نعبد بكسر النون .

{ نستعين } ، الاستعانة ، طلب العون ، والطلب أحد معاني استفعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وهي : الطلب ، والاتحاد ، والتحول ، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك ، ومطاوعة افعل وموافقته ، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد ، والاغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم ، واستعبده ، واستنسر واستعظمه واستحسنه ، وإن لم يكن كذلك ، واستشلى مطاوع اشلى ، واستبل موافق مطاوع ابل ، واستكبر موافق تكبر ، واستعصم موافق اعتصم ، واستغنى موافق غنى ، واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد ، واسترجع ، واستعان حلق عانته ، مغنيان عن فعل ، فاستعان طلب العون ، كاستغفر ، واستعظم .

وقال صاحب اللوامح : وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واواً ، فلا أدري أَذلك عن الفراء أم عن العرب ، وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة ، واستثقالاً للكسرة على الواو .

وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو ، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع ، وبكون استفعل أيضاً لموافقة تفاعل وفعل .

حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم : تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد ، أي احتبست به ، قال ويقال : مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت ، احتبست ، انتهى .

فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل .

وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور ، وهي لغة الحجاز ، وهي الفصحى .

وقرأ عبيد بن عمير الليثي ، وزر بن حبيش ، ويحيى بن وثاب ، والنخعي ، والأعمش ، بكسرها ، وهي لغة قيس ، وتميم ، وأسد ، وربيعة ، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه .

وقال أبو جعفر الطوسي : هي لغة هذيل ، وانقلاب الواو ألفاً في استعان ومستعان ، وياء في نستعين ومستعين ، والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف ، ويعدى استعان بنفسه وبالباء .

إياك مفعول مقدم ، والزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص ، فكأنه قال : ما نعبد إلا إياك ، وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله اتلوا ، وذكرنا نص سيبويه هناك .

فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول .

وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال : إياك أعني ، فقال له : وعنك أعرض ، فقدما الأهم ، وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة ، إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه .

والانتقال من فنون البلاغة ، وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم ، ومن الخطاب للغيبة أو التكلم ، ومن التكلم للغيبة أو الخطاب .

والغيبة تارة تكون بالظاهر ، وتارة بالمضمر ، وشرطه أن يكون المدلول واحداً .

ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله تعالى ؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام ، والاقتدار على التصرف فيه .

وقد ذكر بعضهم مزيداً على هذا ، وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع ، ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء ، وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور ، أقبل الحامد مخبراً بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره ، أنه وغيره يعبده ويخضع له .

وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره ، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين ، كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره .

ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة ، مخبراً عنه إخبار الغائب ، ويكون ذلك الشخص حاضراً معك ، فتقول له : إياك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه ، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا .

ومن ذهب إلى أن ملك منادى ، فلا يكون إياك التفاتاً لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة ، كما قال :

يا دار مية بالعلياء فالسند *** أقوت وطال عليها سالف الأبد

ومن الخطاب بعد النداء :

ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى *** ولا زال منها بجرعائك القطر

ودعوى الزمخشري في أبيات امرئ القيس الثلاثة أن فيه ثلاثة التفاتات غير صحيح ، بل هما التفاتان :

الأول : خروج من الخطاب المفتتح به في قوله :

تطاول ليلك بالاثمد *** ونام الخلي ولم ترقد

إلى الغيبة في قوله :

وبات وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد

الثاني : خروج من هذه الغيبة إلى التكلم في قوله : وذلك من نبأ جاءني .

وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين .

إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية ، وإضمار قولوا قبل الحمد لله ، وإضمارها أيضاً قبل إياك لا يكون معه التفات ، وهو قول مرجوح .

وقد عقد أرباب علم البديع باباً للالتفات في كلامهم ، ومن أجلهم كلاماً فيه ابن الأثير الجزري ، رحمه الله تعالى .

وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول مشكلة ، لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتاً ، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع ، فكأنه قال أنت ، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد ، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة ، وهو ينظر إلى قول الشاعر :

أأنت الهلالي الذي كنت مرة *** سمعنا به والأرحبي المغلب

وإلى قول أبي كثير الهذلي :

يا لهف نفسي كان جلدة خالد *** وبياض وجهك للتراب الأعفر

وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع ، وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة ، كقوله تعالى : { لا تعبد الشيطان } ، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي ، أي عن دعائي ، أو التوحيد إلا ليعبدون أي ليوحدون ، وكلها متقاربة المعنى .

وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، وبين ما يطلبه من جهته .

وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها ، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه .

وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سِيْقا في جملتين ، وكل منهما مقصودة ، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين ، فإنه كان يحتمل أن يكون إخباراً بطلب لعون ، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب .

ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة ، كقول بعضهم : إياك نعبد بالعلم ، وإياك نستعين عليه بالمعرفة ، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك .

وفي قوله : نعبد قالوا رد على الجبرية ، وفي نستعين رد على القدرية ، ومقام العبادة شريف ، وقد جاء الأمر به في مواضع ، قال تعالى : { واعبد ربك } { اعبدوا ربكم } ، والكناية به عن أشرف المخلوقين صلى الله عليه وسلم .

قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده } { وما أنزلنا على عبدنا } ، وقال تعالى ، حكاية عن عيسى ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام { قال إني عبد الله } وقال تعالى وتقدس : { لا إله إلا أنا فاعبدني } فذكر العبادة عقيب التوحيد ، لأن التوحيد هو الأصل ، والعبادة فرعه .

وقالوا في قوله : إياك .

رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع ، فإنه خطاب لموجود حاضر .