فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (5)

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قراءة السبعة ، وغيرهم بتشديد الياء ، وقرأ عمر بن فايد بتخفيفها مع الكسر ؛ وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة ، وقرأ أبو السوار الغَنَوي «هَيَّاك » في الموضعين وهي : لغة مشهورة .

والضمير المنفصل هو : «إيا » وما يلحقه من الكاف ، والهاء ، والياء هي : حروف لبيان الخطاب ، والغيبة ، والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور ، وتقديمه على الفعل لقصد الاختصاص ، وقيل للاهتمام ، والصواب أنه لهما ، ولا تزاحم بين المقتضيات . والمعنى : نخصك بالعبادة ، ونخصك بالاستعانة لا نعبد غيرك ، ولا نستعينه ، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل . قال ابن كثير : وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة ، والخضوع ، والخوف ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات ، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تَطريةً لنشاط السامع ، وأكثر إيقاظاً له كما تقرر في علم المعاني . والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه ، وعن جنسه من العباد ، وقيل إن المقام لما كان عظيماً لم يستقلّ به الواحد استقصاراً لنفسه ، واستصغاراً لها ، فالمجىء بالنون لقصد التواضع ، لا لتعظيم النفس .

وقدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية ، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب ، وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إياك نَعْبُدُ } : يعني إياك نوحد ونخاف يا ربنا لا غيرك ، { وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها . وحكى ابن كثير عن قتادة ، أنه قال في { إياك نعبد وإياك نستعين } : يأمركم أن تخلصوا له العبادة ، وأن تستعينوه على أمركم .

وفي صحيح مسلم من حديث المعلى بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال : حمدني عبدي ، وإذا قال { الرحمن الرحيم } قال : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قال { مالك يوم الدين } قال مجدني عبدي ، فإذا قال { إياك نعبد ، وإياك نستعين } قال : هذا بيني ، وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .

وأخرج أبو القاسم البغوي ، والباوردي ، معاً في معرفة الصحابة ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول : " يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين " ، قال : فلقد رأيت الرجال تُصرعُ فتضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها » .