أي : لتستووا{[25995]} متمكنين مرتفقين { عَلَى ظُهُورِهِ } أي : على ظهور هذا الجنس ، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ } أي : فيما سخر لكم { إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : مقاومين . ولولا تسخير{[25996]} الله لنا هذا ما قدرنا عليه .
قال ابن عباس{[25997]} ، وقتادة ، والسدي وابن زيد : { مقرنين } أي : مطيقين . {[25998]}
ولذلك قال :{ لتستووا على ظهوره } أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى . { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها . { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه ، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف . وقرئ بالتشديد والمعنى واحد . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال { سبحان الذي سخر لنا هذا } إلى قوله : { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي راجعون ، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى ، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{على ظهوره} يعني ذكورا وإناثا من الإبل.
{ثم} قال: لكي {تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه}، على ظهورها، يعني يقولون: الحمد لله.
{و} لكي {وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا}، يعني ذلل لنا هذا المركب.
{وما كنا له مقرنين}، يعني مطيقين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كي تستووا على ظهور ما تركبون...
قوله:"ثُمّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ" يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البرّ والبحر "إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ "فتعظموه وتمجدوه، وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام، مما يصفه به المشركون، وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام "وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ"...
وقوله: "وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ" وما كنا له مُطِيقين ولا ضابطين، من قولهم: قد أقرنت لهذا: إذا صرت له قرنا وأطقته، وفلان مقرن لفلان: أي ضابط له مُطِيق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر النعمة الناشئة عن مطلق الإيجاد، ذكر بنعمة الراحة فيه فقال معللاً: {لتستووا} أي تكونوا مع الاعتدال والاستقرار والتمكن والراحة {على ظهوره} أي ظهور كل من ذلك المجعول، فالضمير عائد على ما جمع الظهر نظراً للمعنى تكثيراً للنعمة، وأفرد الضمير رداً على اللفظ دلالة على كمال القدرة بعظيم التصريف براً وبحراً أو تنبيهاً بالتذكير على قوة المركوب لأن الذكر أقوى من الأنثى.
ولما أتم النعمة بخلق كل ما تدعو إليه الحاجة، وجعله على وجه دال على ما له من الصفات، ذكر ما ينبغي أن يكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم، فقال دالاً على عظيم قدر النعمة وعلو غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي: {ثم تذكروا} أي بقلوبكم، وصرف القول إلى وصف التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال: {نعمة ربكم} الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونه من غيرها.
ولما كان الاعتدال عليه أمراً خارقاً للعادة بدليل ما لا يركب من الحيوانات في البر والجوامد في البحر وإن كان قد أسقط العجب فيه كثرة إلفه ذكر به فقال: {إذا استويتم عليه} ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال: {وتقولوا} أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان.
ولما كان الاستواء على ذلك مقتضياً لتذكر النقص بالاحتياج إليها في بلوغ ما ركبت لأجله وفي الثبات عليها وخوف العطب منها وتذكر أن من لا يزال يحسن إلى أهل العجز الذين هم في قبضته ابتداء وانتهاء من غير شيء يرجوه منهم لا يكون إلا بعيداً من صفات الدناءة وأن استواءه على عرشه ليس كهذا الاستواء المقارن لهذه النقائص وأنه ليس كمثله شيء، كان المقام للتنزيه فقال:
{سبحان الذي سخر} أي بعلمه الكامل وقدرته التامة.
{لنا هذا} أي الذي ركبناه سفينة كان أو دابة {وما} أي والحال أنا ما.
{كنا} ولما كان كل من المركوبين في الواقع أقوى من الركاب، جعل عدم إطاقتهم له وقدرتهم عليه كأنه خاص به، فقال مقدماً للجار دلالة على ذلك: {له مقرنين} أي ما كان في جبلتنا إطاقة أن يكون قرناً له وحده لخروج قوته من بين ما نعالجه ونعانيه عن طاقتنا بكل اعتبار ولا مكافئين في القوة غالبين ضابطين، مطيقين من أقرن الأمر: أطاقه وقوي عليه فصار بحيث يقرنه بما شاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات. ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة:
(لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين).. فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستواء: الاعتِلاء. والظهورُ: جمع ظَهر، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك، فهذا أيضاً من التغليب. والمعنى: على ظهوره وفي بطونه. فضمير {ظهوره} عائد إلى {ما} الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ. ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرفِ {على} بنيت على أن للسفينة ظهراً قال تعالى: {فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28].
وقد جُعل قوله: {لتستووا على ظهوره} توطئة وتمهيداً للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله: {ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه} أي حينئذٍ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها. وأجدر بعدم الذهول عنها، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان.
وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام. وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفاً فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة.
وعطف على {تذكروا نعمة ربّكم} قوله: {وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا}، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة.
وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمناً على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي. واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكراً لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا. واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة.
والتسخير: التذييل والتطويع. وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحاً لسبح السفن على مائه، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك، ورصد مهابّ الرياح، ووضع القلوع والمجاذيف، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية. ولهذا عقب بقوله: {وما كنّا له مُقْرِنين} أي مطيقين، أي بمجرد القوة الجسدية، أي لولا التسخير المذكور، فجملة {وما كُنَّا له مقرنين} في موضع الحال من ضمير {لنا} أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائماً مقام القوة.
وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث.
وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالماً إلى أهله.