اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ} (13)

قوله : «لِتَسْتَوُوا » يجوز أن تكون هذه لام العلة ، وهو الظاهر{[49644]} وأن تكون للصيرورة فتتعلق في كليهما ب «جَعَل »{[49645]} . وجوز ابن عطية : أن تكون للأمر{[49646]} ، وفيه بعد ، لقلة دخولها على أمر المخاطب .

وقرئ شاذاً : فَلْتَفْرَحُوا{[49647]} وفي الحديث : «لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ »{[49648]} وقال :

4392 لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ *** فَتَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَا{[49649]}

نص النحويون على قلتها عدا أَبَا القَاسم الزَّجَّاجِيِّ{[49650]} ، فإنه جعلها لغة{[49651]} جيدة{[49652]} .

قوله : { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } أي تذكرونها في قلوبكم ، وذلك الذكر هو أن يَعْرِف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح ، وخلق جُرْمَ السفينة على وجه يُمْكِنُ الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء ، فإذا تذكر أن خلق البحر ، وخلق الرياح ، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته ، إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير ، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى ، فيَحْمِلُهُ ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى ، وعلى الاشتغال بالشكر ، لنعم الله التي نهاية لها .

قوله : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } مطيقين{[49653]} وقيل : ضابطين{[49654]} .

واعلم أنه تعالى عين ذكراً لركوب السفينة والدابة ، وهو قوله : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا } وذكر دخول المنازل : { رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } [ المؤمنون : 29 ] وتحقيقه أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثرَ قوة من الإنسان بكثير ، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان ، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر ، وخلقها الباطن ، فحصل منها هذا لانتفاع . أما خَلْقُها الظاهر ، فلأنها تَمْشِي على أربَعٍ ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى مُنْقَادةً للإنسان ، ومسخّرة له ، فَإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عَظُمَ تعجبه من تلك القدرة ، والحكمة التي لا نِهاية لها ، فلا بدّ وأن يقول : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين{[49655]} .

قوله : «( لَهُ ){[49656]} مُقِرْنِينَ » ، «له » متعلق «بمقرنين » ، وقدم الفواصل . والمُقْرِنُ : المُطيقُ للشيء الضابط له من : أَقْرَنَهُ : أي أَطَاقَهُ . قال الواحدي : كأن اشتقاقه من قولك : صِرْتُ له قِرْناً ، ومعنى قِرْن فُلاَنٍ ، أي مثلُهُ في الشِّدة{[49657]} .

وقال أبو عبيدة : قِرْنٌ لفلانٍ أي ضابط له{[49658]} . والقَرْنُ الحَبْلُ{[49659]} ، وقال ابن هَرْمَةَ :

4393 وَأقْرَنْتُ مَا حَمَّلِتْنِي وَلَقَلَّمَا *** يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ والهَجْرُ{[49660]}

وقال عمرو بن معد يكرب :

4394 لَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ *** لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا{[49661]}

وحقيقة أقْرَنَهُ : وجده قَرِينهُ ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف{[49662]} ، قال ( رحمه الله ){[49663]} :

4395 وابنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ *** لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ{[49664]}

وقرئ : مُقْتَرِنِينَ بالتاء قبل الراء{[49665]} .

فصل

ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك ، وأن نضبطها فسُبْحانَ مَنْ سَخَّر لنا هذا بقدرته وحكمته{[49666]} ، روى الزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا وضع رِجْلَهُ في الركاب ، قال : بِسْم اللهِ ، فإذا استوى على الدَّابَّةِ قال : الحَمْدُ لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ »{[49667]} .

وروى عن عليٍّ أيضاً مثله وزاد : ثم حمَّد ثلاثاً ، وكبَّر ثلاثاً ، ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك ، فقيل : مما تضحك يا أمير المؤمنين ؟ قال : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ما فعلتُ ، فقلنا : ما يضحكك يا نبيَّ الله ؟ قال : العبدُ إذا قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنه لا يفغر الذنوب إلا أنت بعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هُوَ »{[49668]} .

فصل

دلت هذه الآية على خلاف قول المُجَبِّرة من وجوه :

الأول : أنه تعالى قال : «لِتَسْتَوُوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتكم عليه » فذكره بلام «كَيْ » وهذا يدل على أنه أراد منا هذا الفعل وهذا يدل على بطلان قولهم : إنه تعالى أراد الكفر منه .

الثاني : قوله «لتستوو » يدل على أن فعله معلّل بالأغراض .

الثالث : أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر عن العبد ولو كان فعل العبد فعلاً لله لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات على هذه الطبائع لأجل أن{[49669]} أَخْلُقَ سُبْحَانَ الله في لسان العبد . وهذا باطل ؛ لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوَسَائِطِ{[49670]} .

قال ابن الخطيب : «الكلام على هذه الوجوه معلوم مما تقدم فلا فائدة في الإعادة »{[49671]} .


[49644]:وهو رأي أبي حيان المفضل، البحر 8/7.
[49645]:نقله أبو حيان عن الحوفي في المرجع السابق.
[49646]:المرجع السابق.
[49647]:ذكر ابن خالويه في مختصره (57) أنها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن الكسائي في رواية زكريا بن وردان.
[49648]:سيف هذا الحديث.
[49649]:من الخفيف ولم أعرف قائله من خلال ما قلبت من مراجع، ويروى: فتقضى ـ بالبناء للمفعول ـ كما يروى: فلتقضي ـ بلام الأمر ـ ويكون حينئذ فيه شاهدان فالشاهد: مجيء لام الأمر داخلة على المضارع المبدوء بالتاء وهو في الشعر أكثر منه في النثر. وقوله فلتقضي تكون الياء إشباعا عن حركة الكسرة، وانظر البيت في الخزانة 9/14 والإنصاف المسألة رقم 72/524 إلى 538. وقد احتج بت الكوفيون على أن فعل الأمر معرب لا مبني، وهو من الشواذ والقلة عند النحويين، لأن لام الأمر لا تدخل على أمر المخاطب والأكثر الاستغناء عنه هذا الفعل الأمر. وانظر كذلك شرح الكافية 2/252 وابن يعيش 7/61 وشرح الأشموني 4/3 والتصريح 1/55 و2/246.
[49650]:عبد الرحمن بن إسحاق، أخذ عن ابن السراج، ولازم الزجاج فنسب إليه وله من الكتب كتاب "الجمل" مات سنة 337 وانظر نزهة الأولياء 204 و205.
[49651]:في (ب) آفة وهو تحريف.
[49652]:انظر الدر المصون 4/775.
[49653]:وهو قول ابن عباس والكلبي انظر القرطبي 16/66.
[49654]:وهو رأي الأخفش وأبي عبيدة، انظر تفسير القرطبي 16/66 والمجاز 2/202.
[49655]:انظر تفسير الإمام الرازي 27/198 و199.
[49656]:سقط من (ب).
[49657]:وهذا رأي ابن سيده في المخصص "قرن" وابن منظور في اللسان 3613.
[49658]:مجاز القرآن 2/202.
[49659]:اللسان المرجع السابق 3611.
[49660]:من الطويل ومعناه إنني أطقت احتمال هجرك وصدك عني يا دعد. والشاهد: أقرنت بمعنى أطقت واستطعت، انظر الدر المصون 4/775، والبحر المحيط 8/7، والكشاف 3/480، وشرح شواهده 421، وليس في ديوانه.
[49661]:من الوافر له وليس في ديوانه أيضا كسابقه. وشاهده: "بمقرنينا" أي بمطيقين، وانظر القرطبي في الجامع 17/66 والبحر 8/7، والدر المصون 4/775.
[49662]:بالمعنى من الكشاف 3/480 فقد قال: "وحقيقة أقرنه وحده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف".
[49663]:ساقط من ب.
[49664]:من البسيط ولم أعرف قائله. وشاهده أن القرن هو الحبل، وأن "أقرنه" المتعدي بهمزة لا يكون إلا بين متساويين كما أوضح أعلى قبل ولزه شده من لزه يلزه لزا ولزازا أي شده وألصقه. والبزل جمع أبزل وبازل وه الشق وذلك أن نابه ـ أب البعير ـ إذا طلع يقال له بازل لشقه اللحم عن منبته شقا.
[49665]:قراءة شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في بحره 8/7 إلا أنه ذكرها باللام. وقرئ المقترنين اسم فاعل من اقترن وانظر كذلك الكشاف 3/480.
[49666]:الرازي 27/199.
[49667]:الكشاف 3/479 و480.
[49668]:رواه علي بن أبي ربيعة عن علي بن أبي طالب انظر القرطبي 16/68.
[49669]:في ب أني وما ذكر أعلى كما قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير.
[49670]:انظر تفسير الرازي 27/199 وقد نقله عن صاحب الكشاف ولم أعثر عليه فيه.
[49671]:المرجع السابق.