معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

قوله تعالى : { وورث سليمان داود } ، نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده ، وكان لداود تسعة عشر ابناً ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين . وقال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليمان ، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى . { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . روي عن كعب قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاووس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، قال : وصاحت طوطوى ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : قدموا خيراً تجدوه ، وهدرت حمامة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان . وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان ، فقال : هل تدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى . وعن فرقد السنجي قال مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ فقالوا الله ونبيه أعلم ، قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا ، قال : سلوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً ، قالوا : أنبأناما يقول القنبر في صفيره ، والديك في صعيقه ، والضفدع في نقيقه ، والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله ، وماذا يقول الزرزور والدراج . قال : نعم ، أما القنبر فيقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأما الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأما الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأما الحمار فيقول : اللهم العن العشار ، وأما الفرس فيقول : إذا التقى الصفان : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق ، وأما الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى ، قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم . وروي عن عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال : " إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم ، عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف ، قرأ : الحمد لله رب العالمين ، ويمد الضالين كما يمد القارئ " . قوله تعالى : { وأوتينا من كل شيء } يؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح ، { إن هذا لهو الفضل المبين } الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا .

وروى أن سليمان عليه السلام أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثَةَ المال ؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه قد كان لداود مائةُ امرأة . ولكن المراد بذلك وراثةُ الملك والنبوة ؛ فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في قوله ]{[21982]} : نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة{[21983]}-{[21984]} .

وقوله{[21985]} : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }{[21986]} ، أي : أخبر سليمان بنعم الله عليه ، فيما وهبه له من الملك التام ، والتمكين العظيم ، حتى إنه سَخَّر له الإنس والجن والطير . وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضًا ، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر - فيما علمناه - مما أخبر الله به ورسوله . وَمَنْ زعم من الجهلة والرّعاع أنّ الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود - كما يتفوه به كثير من الناس - فهو قولٌ بلا علم . ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ؛ إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل{[21987]} البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خُلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال . ولكن الله ، سبحانه وتعالى ، كان قد أفهم سليمان ، عليه السلام ، ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق{[21988]} به الحيوانات على اختلاف أصنافها ؛ ولهذا قال : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : مما يحتاج إليه الملك ، { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي : الظاهر البين لله علينا .

قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان داود ، عليه السلام ، فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع " . قال : " فخرج ذات يوم وأغلقت{[21989]} الأبواب ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لِمَنْ في البيت : من أين دخل هذا الرجل ، والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء داود ، عليه السلام ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : الذي لا يهاب الملوك ، ولا يمتنع من الحجاب . فقال داود : أنت والله إذًا ملك الموت . مرحبًا بأمر الله ، فتزمل داود ، عليه السلام ، مكانه حتى قبضت نفسه ، حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان ، عليه السلام ، للطير : أظلي على داود ، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض ،

فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، وغلبت عليه يومئذ المضرَحية{[21990]}-{[21991]} .

قال أبو الفرج بن الجَوْزيّ : المَضْرَحيّة{[21992]} النسور الحُمر .


[21982]:- زيادة من ف ، أ.
[21983]:- في ف ، أ : "ما تركناه فهو صدقة".
[21984]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (6727) من حديث عائشة بلفظ : "لا نورث ما تركناه صدقة". قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/8) : وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: "نحن" وانظر بقية كلامه وحمله لمعنى الحديث في الفتح.
[21985]:- في ف : "وقال".
[21986]:- بعدها في ف ، أ : "إن هذا لهو الفضل المبين".
[21987]:- في ف : "بل نزل".
[21988]:- في ف : "وما ينطق".
[21989]:- في ف : "وغلقت".
[21990]:- في ف : "المصرحية".
[21991]:- المسند (2/419) وقال الهيثمي في المجمع (8/206) "فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب وثقه أبو زرعة وغيره ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
[21992]:- في هـ ، ف ، أ : "المصرحية" والمثبت من لسان العرب ، مادة "ضرح".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وورث سليمان داود} يعني: ورث سليمان علم داود وملكه، {وقال} سليمان لبني إسرائيل: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} يعني: أعطينا الملك والنبوة والكتاب والرياح، وسخرت لنا الشياطين، ومنطق الدواب، ومحاريب، وتماثيل، وجفان كالجوابي، وقدور راسيات وعين القطر، (يعني عين الصفر). {إن هذا} الذي أعطينا {لهو الفضل المبين} يعني: البين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَوَرِثَ سُلَيْمانُ" أباه "دَاوُدَ "العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه.

"وَقالَ يا أيّها النّاس عُلّمْنا مَنْطِقَ الطّيْرِ" يقول: وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس علمنا منطق الطير، يعني: فهمنا كلامها وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها...

وقوله: "وأُوتينا مِنْ كلّ شَيْءٍ" يقول: وأُعطينا ووُهب لنا من كلّ شيء من الخيرات. "إنّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ" يقول: إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا "المبين"، يقول: الذي يبين لمن تأمّله وتدبره أنه فضل أُعطِيناه على من سوانا من الناس.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وورث سليمان داوود} قال أهل التأويل: ورث النبوة والحكم، والوارث هو الباقي بعد هلاك الآخر وفنائه..فعلى ذلك قوله: {وورث سليمان داوود} أي بقي في ملكه ونبوته...

.

{يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} لا يحتمل أن يذكر هذا، صلوات الله عليه، على الافتخار والتياهة، ولكن ذكر فضل الله ونعمه التي أعطاه، ومنَّ عليه...ثم قوله: {وأوتينا من كل شيء} لا يحتمل كل شيء، لأنهم لم يؤتوا كل شيء حتى لم يبق شيء، إنما أتوا شيئا دون شيء، ولكن كأنه قال: وأوتينا من كل شيء سألناه أن يؤتينا، ويحتمل أن يكون {وأوتينا من كل شيء} مما يؤتى الأنبياء والملوك وما يحتاج إليه، والله أعلم.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير} سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه، كما يفهم من كلام الناس.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه...

{وَقَالَ يا أيها الناس} تشهيراً لنعمة الله، وتنويهاً بها، واعترافاً بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور...

فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه. والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع -وكان ملكاً مطاعاً- فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

{وأوتينا من كل شيء} عموم معناه الخصوص، والمراد بهذا اللفظ التكثير: كقولك فلان يقصده كل أحد..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه فقال: {وورث سليمان داود} أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً {وقال} أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير: {يا أيها الناس}.

ولما كان من المعلوم أنه لا معلم له إلا الله، فإنه لا يقدر على ذلك غيره، قال بانياً للمفعول: {علمنا} أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ممن لا يقدر على ما علمنا سواء ولو كان المقصود هو وحده لم يكن من التعاظم في شيء، بل هو كلام الواحد المطاع، تنبيهاً على تعظيم الله بما عظمه به مما يختص بالقدرة عليه أو بالأمر به كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا كان هناك حال يحوج إليه كما قال في الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل، وكما كان يكتب لبعض الجبابرة {منطق الطير} أي فهم ما يريد كل طائر إذا صوت، والمنطق ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، ولا بدع في أن الذي آتى كل نفس هداها وعلمها تميز منافعها ومضارها يؤتيها قوة تدرك بها تخاطباً بينها يتفاهم كل نوع منها به فيما يريد، ويكون ذلك قاصراً عن إدراك الإنسان لخصوصه بالجزئيات الناشئة عن الحسيات {وأوتينا} ممن له العظمة بأيسر أمر من أمره {من كل شيء} أي يكمل به ذلك من اسباب الملك والنبوة وغيرهما، وعبر بأداة الاستغراق تعظيماً للنعمة كما يقال لمن يكثر تردد الناس إليه: فلان يقصده كل أحد.

ولما كان هذا أمراً باهراً، دل عليه بقوله مؤكداً بأنواع التأكيد وشاكراً حاثاً لنفسه على مزيد الشكر وهازاً لها إليه: {إن هذا} أي الذي أوتيناه {لهو الفضل المبين} أي البين في نفسه لكل من ينظره، الموضح لعلو قدر صاحبه ووحدانية مفيضه مؤتية.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{وورث سليمان داود}

طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفاً. وقد كان داود ملكاً على بني إسرائيل ودام ملكه أربعين سنة وتوفي وهو ابن سبعين سنة.

فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم. فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله: {ولقد آتينا داوود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا} [النمل: 15] فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه.

وقد كان لداود أحدَ عشر ولداً فلا يختص إرثُ ماله بسليمان وليس هو أكبرهم، وكان داود قد أقام سليمان ملكاً على إسرائيل. وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به لجواز أن يورث مال النبي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نُورث ما تركنَا صدقة"، وظاهره أنه أراد من الضمير جماعة الأنبياء وشاع على ألسنة العلماء: إنا أو نَحن معاشرَ الأنبياء لا نورث، ولا يعرف بهذا اللفظ، ووقع في كلام عمر بن الخطاب مع العباس وعلي في شأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر: « أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله قال: لا نُورث ما تركنا صدقة، يريد رسولُ الله نفسَه» وكذلك قالت عائشة، فإذا أخذنا بظاهر الآية كان هذا حكماً في شرع من قبلنا فينسخ بالإسلام، وإذا أخذنا بالتأويل فظاهر. وقد أجمع الخلفاء الراشدون وغيرهم على ذلك، خلافاً للعباس وعلي، ثم رجعا حين حاجهما عمر. والعلة هي سدّ ذريعة خطور تمني موت النبي في نفس بعض ورثته.

{وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين}

قال سليمان هذه المقالة في مجمع عظيم لأن لهجة هذا الكلام لهجة خطبته في مجمع من الناس الحاضرين مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة. فهذه الجملة متضمنة شكر الله تعالى ما منحه من علم ومُلك، وليقدر الناس قدره ويعلموا واجب طاعته إذ كان الله قد اصطفاه لذلك، وأطلعه على نوايا أنفر الحيوان وأبعده عن إلف الإنسان وهو الطير، فما ظنك بمعرفة نوايا الناس من رعيته وجنده فإن تخطيط رسوم الملك وواجباته من المقاصد لصلاح المملكة بالتفاف الناس حول ملكهم وصفاء النيات نحوه، وبمقدار ما يحصل ذلك من جانبهم يكون التعاون على الخير وتنزل السكينة الربانية، فلما حصل من جانب سليمان الاعتراف بهذا الفضل لله تعالى فقد أدى واجبه نحو أمته فلم يبق إلا أن تؤدي الأمة واجبها نحو مَلِكها، كما كان تعليم فضائل النبوة من مقاصد الشارع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

« أنا سيِّد ولدِ آدم ولا فخر» أي أقوله لقصد الإعلام بواجب التقادير لا لقصد الفخر على الناس، ويعلموا واجب طاعته.

وعِلم منطق الطير أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وإرادتها. وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلاً له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القُوى الكثيرة، وللطير دلالة في تخاطب أجناسها واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار وردها ونحو ذلك.

ووراء ذلك كله انشراحُ الصدر بالحكمة والمعرِفة لكثير من طبائع الموجودات وخصائصها. ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها: بعضُها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه مُمسك أو يهاجمه كاسر، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل، فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضاً فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل لما أجملته الأحوال المجملة، فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس ولا يطلع عليها إلا خالقها، وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكّها وإدغامها واختلاف حركاتها على معان لا يهتدي إليها مَن يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة ولم يتقن دقائقها. مثل أن يسمع ضَلَلْت وظَللت، فالله تعالى اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير وأعلمه بأحوال نفوس الطير عندما تصفر بتلك التقاطيع...

والاقتصار على منطق الطير إيجاز لأنه إذا عَلِم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطاً بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله تعالى فيما يأتي قريباً: {فتبسّم ضَاحكاً من قولها} [النمل: 19]، فتدل هذه الآية على أنه علِّم منطق كل صنف من أصناف الحيوان...

وعُبر عن أصوات الطير بلفظ {منطق} تشبيهاً له بنطق الإنسان من حيث هو ذو دلالة لسليمان على ما في ضمائر الطير، فحقيقة المنطق الصوتُ المشتمل على حروف تدل على معان.

وضمير {عُلِّمنا أُوتينا} مراد به نفسه، جاء به على صيغة المتكلم المشارك؛ إما لقصد التواضع كأنَّ جماعة عُلموا وأُوتوا وليس هو وحده كما تقدم في بعض احتمالات قوله تعالى آنفاً: {وقالا الحمد لله الذي فضّلنا}، وإما لأنه المناسب لإظهار عظمة الملك، وفي ذلك تهويل لأمر السلطان عند الرعية، وقد يكون ذلك من مقتضى السياسة في بعض الأحوال...

والمراد ب {كل شيء} كل شيء من الأشياء المهمة ففي {كل شيء} عمومان عموم {كلّ} وعموم النكرة وكلاهما هنا عموم عرفي، ف {كلّ} مستعملة في الكثرة و {شيء} مستعمل في الأشياء المهمة مما له علاقة بمقام سليمان، وهو كقوله تعالى فيما حكى عن أخبار الهدهد. {وأوتِيَتْ من كل شيء} [النمل: 23]، أي كثيراً من النفائس والأموال. وفي كل مقام يحمل على ما يناسب المتحدث عنه.

والتأكيد في {إن هذا لهو الفضل المبين} بحرف التوكيد ولامه الذي هو في الأصل لام قسم وبضمير الفصل مقصود به تعظيم النعمة أداء للشكر عليها بالمستطاع من العبارة.

و {الفضل}: الزيادة من الخير والنفع. و {المبين}: الظاهر الواضح.