الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه - وكانوا تسعة عشر - وكان داود أكثر تعبداً ، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله { وَقَالَ يا أيها الناس } تشهيراً لنعمة الله ، وتنويهاً بها ، واعترافاً بمكانها ، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور . والمنطق : كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف ، المفيد وغير المفيد . وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق ، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم ، وقالت العرب : نطقت الحمامة ، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته ، والذي علمه سليمان من منطق الطير : هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه . ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : الله ونبيه أعلم : قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا . وصاح طاووس ، فقال يقول : كما تدين تدان . وصاح هدهد ، فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين . وصاح طيطوي ، فقال يقول : كل حيّ ميت ، وكل جديد بال . وصاح خطاف فقال يقول : قدّموا خيراً تجدوه . وصاحت رخمة ، فقال تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه . وصاح قمري ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى . وقال : الحدأ يقول : كل شيء هالك إلا الله . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه . والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين . والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت . والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . وأراد بقوله : { مِن كُلّ شَىْء } كثرة ما أوتي ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، تريد : كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه . ومثله قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] . { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر » أي : أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً .

فإن قلت : كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفسه وأباه . والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع - وكان ملكاً مطاعاً - فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها ، وليس التكبر من لوازم ذلك ، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه ، وإظهار آيينه وسياسته مصالح ، فيعود تكلف ذلك واجباً . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحواً من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ . ألا ترى كيف أمر العباس رضي الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب .