اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

قوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } ، قال الحسن : المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث{[38430]} ، وقال غيره : بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده{[38431]} ، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء ، لقوله عليه السلام{[38432]} : «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة »{[38433]} ، وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً ، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً ، ولا كذلك{[38434]} النبوة ، لأن الموت{[38435]} لا يكون سبباً لنبوة الولد{[38436]} ، وكان لداود تسعة عشر ابناً ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين ، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليمان ، وكان سليمان شاكراً لنعم الله{[38437]} .

{ وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير } ، يعني صوته ، سمي صوت الطير منطقاً ، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس ، روي عن كعب قال : صاح ورشان{[38438]} عند سليمان عليه السلام{[38439]} ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : إنه يقول : لدوا للموت ، وابنوا{[38440]} للخراب ، وصاحت فاختة{[38441]} ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا ، قال فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح{[38442]} الطاووس{[38443]} فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، قال : وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاحت طيطوى{[38444]} ، فقال أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا ، قال فإنه يقول : كل حي ميت ، وكل جديد بال وصاح خطاف{[38445]} ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : قدّموا خيرًا تجدوه ، وهدرت حمامة فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ( ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري{[38446]} ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ){[38447]} ، قال : والغراب يدعو{[38448]} على العشَّار ، والحدأة تقول :

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، والقطاة{[38449]} تقول : من سكت سلم ، والببغاء{[38450]} : ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ ، والضفدع يقول : سبحان ربِّي القدُّوس ، والبازي{[38451]} يقول : سبحان ربي وبحمده{[38452]} . وعن مكحول{[38453]} قال : صاح دُرَّاج{[38454]} عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : { الرحمن عَلَى العرش استوى }{[38455]} [ طه : 5 ] .

قوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } تؤتى الأنبياء{[38456]} والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة{[38457]} . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والريح{[38458]} { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } ، والمراد بقوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } كثرة ما أوتي ، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة ، فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثرة ، كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ }{[38459]} [ النمل : 23 ] وقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } ، أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا ، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة ( سنة ){[38460]} وستة أشهر ، ملك جميع أهل{[38461]} الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة{[38462]} .

فقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } تقرير لقوله : { الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا } والمقصود منه : الشكر والمحمدة ، كما قال عليه السلام{[38463]} : «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ »{[38464]} .

فإن قيل : كيف قال{[38465]} «عُلِّمنا » و «أُوتِينَا » ، وهو كلام المتكبر ؟ فالجواب من وجهين ،

الأول : أن يريد نفسه وأباه .

والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع ، وكان ملكاً مطاعاً{[38466]} .


[38430]:انظر الفخر الرازي 24/186.
[38431]:المرجع السابق.
[38432]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38433]:أخرجه البخاري (فرض الخمس) 2/186، (فضائل أصحاب النبي) 2/301، (مغازي) 3/16، (نفقات) 3/187، (فرائض) 4/214، مسلم (جهاد) 3/1377، 1382، 1383 أبو داود (إمارة) 3/365-371، الترمذي (سير) 3/82، ومالك (كلام) 2/993، أحمد 1/4، 6، 9، 10، 25، 47، 48، 2/463، 6/145، 762.
[38434]:في ب: وكذلك وهو تحريف.
[38435]:في النسختين: النبوة. والتصويب من الفخر الرازي.
[38436]:انظر الفخر الرازي 24/186.
[38437]:انظر البغوي 6/264.
[38438]:الورشان: طائر من الفصيلة الحمامية، أكبر قليلا من الحمامة المعروفة، يستوطن أوربة، ويهاجر في جماعات إلى العراق والشام، ولكنها لا تمر بمصر، والجمع ورشان ووراشين. المعجم الوسيط (ورش).
[38439]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38440]:في ب: وانموا.
[38441]:الفاختة: ضرب من الحمام المطوق إذا مشى توسع في مشيه وباعد بين جناحيه وإبطيه وتمايل، والجمع: فواخت. المعجم الوسيط (فخت).
[38442]:في ب: وصاحت.
[38443]:الطاووس: طائر حسن الشكل كثير الألوان، يبدو كأنه يعجب بنفسه وبريشه ينشر ذنبه كالطاق، يذكر ويؤنث، والجمع طواويس وأطواس. المعجم الوسيط (طوس).
[38444]:الطيطوى: ضرب من القطا طوال الأرجل. اللسان (طيط).
[38445]:الخطاف: هو ضرب من الطيور القواطع، عريض المنقار دقيق الجناح طويله، منتفش الذيل والجمع: خطاطيف. المعجم الوسيط (خطف).
[38446]:القمري: ضرب من الحمام مطوق حسن الصوت، والجمع: قمر. والأنثى قمرية، والجمع: قماري المعجم الوسيط (قمر).
[38447]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38448]:في ب: يدعوا.
[38449]:القطاة: واحدة القطا، وهو نوع من اليمام، يؤثر الحياة في الصحراء ويتخذ أفحوصه في الأرض، ويطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مرقط، والجمع: قطا، وقطوات، وقطيات. المعجم الوسيط (قطو).
[38450]:الببغاء: طائر من الفصيلة الببغاوية يطلق على الذكر والأنثى، يتميز بمنقار معقوف، وأربع أصابع في كل رجل، وله لسان لحمي غليظ، ومن أشهر أوصافه أنه يحاكي كلام الناس. المعجم الوسيط (ببغ).
[38451]:البازي: جنس من الصقور الصغيرة أو المتوسطة الحجم، من فصيلة العقاب النسرية، تميل أجنحتها على القصر، وتميل أرجلها وأذنابها إلى الطول، ومن أنواعه الباشق والبيدق، والجمع: بواز، وبزاة. المعجم الوسيط (بزا).
[38452]:انظر البغوي 6/264-265.
[38453]:تقدم.
[38454]:الدراج: نوع من الطيور يدرج في مشيه. المعجم الوسيط (درج).
[38455]:انظر البغوي 6/265.
[38456]:الأنبياء: سقط من ب.
[38457]:انظر البغوي 6/265.
[38458]:المرجع السابق.
[38459]:انظر الفخر الرازي 24/186.
[38460]:سنة: تكملة من البغوي.
[38461]:أهل: سقط من ب.
[38462]:انظر البغوي 6/265-266.
[38463]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38464]:أخرجه الترمذي (تفسير) 4/370، أبو داود (سنة) 5/54، أحمد 1/281، 195، 283، 144.
[38465]:في ب: قد. وهو تحريف.
[38466]:انظر الكشاف 3/136، الفخر الرازي 24/186.