فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

{ وورث سليمان داود } أي ورثه العلم والنبوة أو الكتب ، دون باقي أولاده ، قال قتادة والكلبي : كان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا ، فورث سليمان من بينهم نبوة ، ولو كان المراد وراثة المال لم يخص سليمان بالذكر ، لأن جميع أولاده في ذلك سواء ، وكذا قال جمهور المفسرين .

فهذه الوراثة هي وراثة مجازية ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : العلماء ورثة الأنبياء ، قال قتادة : في الآية ورث نبوته وملكه وعلمه ؛ وأعطى ما أعطي داود وزيد له تسخير الريح ، والجن والشياطين ، وكان أعظم ملكا منه ، وأقضي منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، شاكرا لنعم الله تعالى .

{ وقال } سليمان لبني إسرائيل تحدثا بما أنعم الله به عليه ، وشكر النعمة التي خصه بها { يا أيها الناس علمنا } الضمير فيه وفي أوتينا لكل من داود وسليمان ، قال القرطبي : تفضل الله علينا زيادة على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة ، والخلافة في الأرض أن فهمنا { منطق الطير } أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوت ، والمعاني التي في نفوسها ، سمي صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به ، لا يشاركه فيها غيره . قال الفراء : منطق الطير كلام الطير ، فجعل كمنطق الرجل . ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير .

ومقتضى هذا الكلام أن كلاّ منهما كان يعلم أصوات الطير ، وما تريده . قال الخطيب : علمنا أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله . وفي البيضاوي النطق والمنطق في التعارف : كل لفظ يعبر به عما في الضمير ؛ مفردا كان أو مركبا مفيدا كان أو غير مفيد . وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم : نطقت الحمامة ، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد ، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات نزلت منزلة العبارات ، سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض ، بحيث يفهمها ما هو من جنسه .

ولعل سليمان مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية الغرض الذي صوت لأجله ، والغرض الذي توخاه به انتهى . قال جماعة من المفسرين : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، لأنه كان جندا من جنوده ، يسير معه لتضليله من الشمس ، فخص بالذكر لكثرة مداخله . وقال قتادة والشعبي : إنما علم منطق الطير خاصة ، ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير ، وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير ، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع سليمان كلامها وفهمه .

أخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أبي الصديق{[1338]} الناجي قال : خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس ، فمر على نملة مستلقية قفاها رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك ، فإما أن تسقينا ، وإما أن تهلكنا ، فقال سليمان : للناس ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم .

وقد ذكر الخازن والنسفي في تفسيريهما منطق بعض الطيور ، وما تقوله القمري وغيرها ، وكذا القرطبي بإسناد صحيح متصل عليه ويصار إليه فتركنا ذكره ههنا فإنه لا يأتي بكثير فائدة للمنقحين .

{ وأوتينا من كل شيء } تدعوا إليه الحاجة ، كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن ، والإنس ، والطير ، والرياح ، والوحش ، والدواب ، وكل ما بين السماء والأرض . وجاء سليمان بنون العظمة ، والمراد نفسه بيانا لحاله من كونه مطاعا لا يخالف ، ولا تكبرا وتعظيما لنفسه ، عن جعفر{[1339]} بن محمد قال : أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، ، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم ، وأعطي كل شيء .

وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة ، حتى إذا أراد الله أن يقبضه أوحى إليه أو يستودع علم الله وحكمته أخاه ؛ وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلا ، أنبياء بلا رسالة . قال الذهبي : هذا باطل وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان عن القرظي وغيره لا تطيب النفس بذكر شيء منها ، فالإمساك عن ذكرها أولى .

{ إن هذا } أي ما تقدم من التعليم والإيتاء { لهم الفضل المبين } أي الظاهر الواضح ، الذي لا يخفى على أحد . أو المظهر لفضيلتنا وإنما قال ذلك شكرا لا فخرا .


[1338]:أبو الصديق الناجي واسمه بكر بن عمرو، وقال ابن سعد في الطبقات يتكلمون في أحاديثه يستنكرونها وقال غيره: ثقة تابعي قال الذهبي يحتج به في الصحاح والكلام هنا عن قصة دعاء النملة موقوف عليه. المطيعي.
[1339]:يعتبر الشيعة الإمامية والشيعة الإثنا عشرية وطائفة الإسماعيلية جعفر بن محمد أحد الأئمة المعصومين ويعدون قوله بمنزلة التنويل، ورحم الله جعفرا الصادق وأباه محمدا الباقر، وأجدادهما الطاهرين لو رأيا كيف اتخذهما بعض الناس أربابا لالتمسا في يديهما. السيوف. المطيعي.