في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

15

وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان ، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث :

( وورث سليمان داود . وقال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء . إن هذا لهو الفضل المبين ) . .

وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم . ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان . إنما يذكر العلم . لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال !

( وورث سليمان داود )والمفهوم أنها وراثة العلم ، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر . ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس : ( قال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء ) . . فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير . وليس هو داود . فهو لم يرث هذا عن أبيه . وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاءه من حيث جاءه ذلك التعليم .

( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) . . يذيعها سليمان - عليه السلام - في الناس تحدثا بنعمة الله ، وإظهارا لفضله ، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس . ويعقب عليها ( إن هذا لهو الفضل المبين )فضل الله الكاشف عن مصدره ، الدال على صاحبه . فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله . وكذلك لا يؤتي أحدا من كل شيء - بهذا التعميم - إلا الله .

وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم - هي لغاتها ومنطقها - فيما بينها . والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها ، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها . و ذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات . ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين . فأما ما وهبه الله لسليمان - عليه السلام - فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر . لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم ، على طريق الظن والحدس ، كما هو حال العلماء اليوم . . .

أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان - عليه السلام - في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة . وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها ، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل ! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله ، أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات ، هبة لدنية منه ، بلا محاولة ولا اجتهاد . وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع . و هو خالق هذه الأنواع !

على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان . أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته ، وطوع أمره ، كجنوده من الإنس سواء بسواء . والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير .

يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم . وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز . .

حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه ، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان ؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام . وإنها خاضعة - كحلقة مفردة - للناموس العام ، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به .

وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم ، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين ، منذ أن وجدت الهداهد . وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول . ومهما بلغ التحوير فيه ، فهو لا يخرج من نوعه ، ليرتقي إلى نوع آخر . . وإن هذا - كما يبدو - طرف من سنة الله في الخلق ، ومن الناموس العام المنسق للكون .

ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس . وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام ، الذي لا نعرف أطرافه . جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله ، يخرق المألوف المعهود للبشر ، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام . وهكذا وجد هدهد سليمان ، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان .

ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال