مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

أما قوله تعالى : { وورث سليمان داود } فقد اختلفوا فيه ، فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث ، وقال غيره بل النبوة ، وقال آخرون بل الملك والسياسة ، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا ، لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط ، وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سببا لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان ، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته ، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله : { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } معنى ، وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه ، وكذلك قوله تعالى : { وأوتينا من كل شيء } لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله : { إن هذا لهو الفضل المبين } لا يليق أيضا إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص ، وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه ، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال ، فأما إذا قيل ورث المال والملك معا فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها ، بل بظاهر قوله عليه السلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث » .

فأما قوله : { أيها الناس } فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، قال صاحب الكشاف المنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وقد ترجم يعقوب كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم ، وقالت العرب نطقت الحمامة فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه .

أما قوله تعالى : { وأوتينا من كل شيء } فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة ، والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله : { وأوتيت من كل شيء } .

أما قوله : { إن هذا لهو الفضل المبين } فهو تقرير لقوله : { الحمد لله الذي فضلنا } والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر » فإن قيل كيف قال : { علمنا وأوتينا } وهو من كلام المتكبرين ؟ جوابه من وجهين : الأول : أن يريد نفسه وأباه . والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكا مطاعا ، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجبا .