معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

قوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } فيما مضى .

قوله تعالى : { ولن تفعلوا } . أبداً فيما بقي ، وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله .

قوله تعالى : { فاتقوا النار } . أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار .

قوله تعالى : { التي وقودها الناس والحجارة } . قال ابن عباس وأكثر المفسرين : يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً ، وقيل جميع الحجارة ، وهو دليل على عظمة تلك النار ، وقيل : أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) .

قوله تعالى : { أعدت للكافرين } . هيئت للكافرين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

" ولن " : لنفي التأبيد{[1371]} أي : ولن تفعلوا ذلك أبدًا . وهذه - أيضًا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا{[1372]} وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ !

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ،

كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته .

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في الترغيب : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ } [ الإسراء : 68 ] ، { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16 ، 17 ] وقال في الزجر : { فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه . ولهذا قال تعالى : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } الآية [ الأعراف : 157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم .

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا{[1373]} يوم القيامة » لفظ{[1374]} مسلم . وقوله : «وإنما كان الذي أوتيته وحيًا » أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز{[1375]} للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ]{[1376]} والله أعلم . وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .

[ وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ] {[1377]} .

وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أما الوَقُود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [ الجن : 15 ] وقال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] .

والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها .

قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد{[1378]} عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين . رواه ابن جرير ، وهذا لفظه . وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين{[1379]} .

وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .

وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقال أبو جعفر محمد بن علي : [ هي ]{[1380]} حجارة من كبريت . وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم .

[ وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية [ الأنبياء : 98 ] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك . وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [ الإسراء : 97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مؤذ في النار " وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف{[1381]} ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما : أن كل من آذى الناس دخل النار{[1382]} ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ]{[1383]} .

وقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أنّ الضمير في { أُعِدَّتْ } عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان .

و{ أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [ محمد ]{[1384]} بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .

وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : { أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : " تحاجت الجنة والنار " ومنها : " استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف " ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها » وهو عند مسلم{[1385]} وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .

/خ24


[1371]:في جـ، ب، أ، و: "التأبيد في المستقبل".
[1372]:في جـ، ط، أ: "أبد الآبدين ودهر الداهرين".
[1373]:في جـ: "تبعا".
[1374]:صحيح البخاري برقم (4981)، وصحيح مسلم برقم (152).
[1375]:في ط: "المفهم".
[1376]:زيادة من جـ، ط، ب، أ.
[1377]:زيادة من جـ، ط، ب.
[1378]:في جـ: "الرزاز".
[1379]:تفسير الطبري (1/381) وتفسير ابن أبي حاتم (1/85) والمستدرك (2/61).
[1380]:زيادة من جـ.
[1381]:رواه الخطيب في تاريخ بغداد (11/299) من طريق المفيد عن الأشج، عن علي رضي الله عنه به مرفوعًا.
[1382]:في أ: "عذب في النار".
[1383]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1384]:زيادة من جـ.
[1385]:صحيح مسلم برقم (2844).