قوله تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } قال ابن عباس : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي ، وثوابكن أعظم لدي ، ولم يقل : كواحدة ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال الله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } وقال : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } { إن اتقيتن } الله فأطعتنه ، { فلا تخضعن بالقول } لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام ، { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي : فجور وشهوة ، وقيل نفاق ، والمعنى : لا تقلن قولاً يجد منافق أو فاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن . والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع . { وقلن قولاً معروفاً } ما يوجبه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع .
قوله تعالى : " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن " يعني في الفضل والشرف . وقال : " كأحد " ولم يقل كواحدة ، لأن أحدا نفي{[12806]} من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة . وقد يقال على ما ليس بآدمي ، يقال : ليس فيها أحد ، لا شاة ولا بعير . وإنما خص النساء بالذكر لأن فيمن تقدم آسية ومريم . وقد أشار إلى هذا قتادة . وقد تقدم في " آل عمران " الاختلاف في التفضيل بينهن ، فتأمله{[12807]} هناك . ثم قال : " إن اتقيتن " أي خفتن الله . فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى ، لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ، ونزول القرآن في حقهن .
قوله تعالى : " فلا تخضعن بالقول " في موضع جزم بالنهي ، إلا أنه مبني كما بني الماضي ، هذا مذهب سيبويه ، أي لا تلن القول . أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا ، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين ، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه ، مثل كلام المريبات والمومسات . فنهاهن عن مثل هذا . " فيطمع الذي في قلبه مرض " " فيطمع " بالنصب على جواب النهي . " الذي في قلبه مرض " أي شك ونفاق ، عن قتادة والسدي . وقيل : تشوف الفجور ، وهو الفسق والغزل ، قاله عكرمة . وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية . وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ " فيطمِع " بفتح الياء وكسر الميم . النحاس : أحسب هذا غلطا ، وأن يكون قرأ " فيطمَعِ " بفتح الميم{[12808]} وكسر العين بعطفه على " تخضعن " فهذا وجه جيد حسن . ويجوز " فيطمع " بمعنى فيطمع الخضوع أو القول . " وقلن قولا معروفا " قال ابن عباس : أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول ، من غير رفع صوت ، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام . وعلى الجملة فالقول المعروف : هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس .
ولما كان لكل حق حقيقة ، ولكل قول صادق بيان ، قال مؤذناً بفضلهن : { يا نساء النبي } أي{[55528]} الذي أنتن من أعلم{[55529]} الناس بما بينه وبين الله من الإنباء بدقائق الأمور وخفايا{[55530]} الأسرار وما له من الزلفى لديه { لستن كأحد من النساء } قال البغوي{[55531]} : ولم يقل : كواحدة{[55532]} ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث - انتهى ، فالمعنى كجماعات{[55533]} من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد فيهن جماعة تساويكن في الفضل لما خصكن الله{[55534]} به من قربة بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزول الوحي الذي بينه وبين الله في بيوتكن .
ولما كان المعنى : بل أنتن أعلى النساء ، ذكر{[55535]} شرط ذلك فقال : { إن اتقيتن } أي جعلتن بينكن وبين غضب الله وغضب رسوله وقاية ، ثم سبب عن هذا النفي قوله : { فلا تخضعن } أي إذا تكلمتن بحضرة أجنبي { بالقول } أي بأن يكون لينا{[55536]} عذباً رخماً ، والخضوع التطأمن والتواضع واللين والدعوة إلى السواء ؛ ثم سبب عن الخضوع : قوله : { فيطمع } أي في الخيانة { الذي في قلبه مرض } أي فساد وريبة ، والتعبير بالطمع للدلالة على أن{[55537]} أمنيته لا سبب لها في الحقيقة ، لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه ، فأريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بضده .
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخامة الصوت ، أمرهن بضده فقال : { وقلن قولاً معروفاً } أي{[55538]} يعرف أنه بعيد عن محل الطمع .
قوله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 32 ) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( 33 ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } .
نساء النبي صلى الله عليه وسلم مكرمات لشرفهن ، وعلو منزلتهن ، فهن لسن كأحد من النساء في الفضل والشرف . وذلك مشروط بالتقوى منهن ، وهو قوله : { إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } وذلك بخشية الله وطاعته والتزام أوامره ، فإنهن بذلك لا يشبههن أحد من النساء ، ولا يلحقهن في الفضيلة وعلو الدرجة . أي إن اتقين الله انفردتنّ بخصائص من جملة النساء{[3738]} ونساء النبي ، وإنْ كُن من الآدميات ، فهن لسن كإحداهن . وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه وإن كان من البشر من حيث الجبلَّة ، فهو ليس منهم من حيث الفضيلة وعلو المنزلة . فلئن كانت نَساء النبي بهذه المكانة من شرف المنزلة وهن ممن يُقتدى بهن ؛ فإنه جدير بهن أن تعلو أفعالهن فوق الأفعال ، وأن تربو صفاتهن على سائر الصفات .
أما قوله : { كأحد } وليس كواحدة فوجهه أن أحدا ينفي المذكر والمؤنث والواحد والجماعة .
قوله : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } الخضوع بالقول منهن يراد به لين الحديث ، وترقيق الكلام إذا خاطب الأجانب من الرجال . لا جرم أن ترخيم الخطاب من المرأة ؛ إذ تخاطب الأجانب يفضي إلى الفتنة التي تجنح بضعاف العزائم إلى الميل والاسترخاء والهوى . ولذلك قال : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } المرض معناه هنا الدغل وهو الفساد{[3739]} ، وذلك يعم كل وجوه الفسق ، والتشوُّف للفجور . فما تترفق المرأة في حديثها الرخيم اللين أمام الرجال إلا كان ذلك مدعاة لانفتال القلوب الضعيفة ، فتميل في الغالب للفتنة والاحترار والانشغال . وجدير بالنساء المسلمات الفضليات اللواتي يتقين الله ، ويطعن أوامره أن يخاطبن الأجانب من الرجال في جِدٍّ وخشونة بعيدا عن الترخيم والترقيق والريبة .
قال ابن العربي في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } : أمرهن الله تعالى أن يكون قولُهن جزلا ، وكلامُهن فصلا ، ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المُطمع للسامع .
قوله : { وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا } أي قولا حسنا بعيدا من طمع المريب . وقيل : المراد بالمعروف الذي تدعو إليه الحاجة .