البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } : أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء ، أي من نساء عصرك .

وليس النفي منصباً على التشبيه في كونهن نسوة .

تقول : ليس زيد كآحاد الناس ، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنساناً ، بل في وصف أخص موجود فيه ، وهو كونه عالماً ، أو عاملاً ، أو مصلياً .

فالمعنى : أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن ، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين .

ونزل القرآن فيكن ، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال ، كما قال عليه السلام : « لست كأحدكم » ، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به .

وقال الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ؛ ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه ، والمعنى : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء ، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة ، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، ومنه قوله عز وجل : { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } يريد بين جماعة واحدة منهم ، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين . انتهى .

أما قوله : أحد في الأصل بمعنى : وحد ، وهو الواحد فصحيح .

وأما قوله : ثم وضع ، إلى قوله : وما وراءه ، فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحداً ، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة ، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل .

وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال ، فقد اختلفا مادة ومدلولاً .

وأما قوله : { لستن } كجماعة واحدة ، فقد قلنا : إن قوله { لستن } معناه : ليست كل واحدة منكن ، فهو حكم على كل واحدة واحدة ، ليس حكماً على المجموع من حيث هو مجموع .

وقلنا : إن معنى كأحد : كشخص واحد ، فأبقينا أحداً على موضوعه من التذكير ، ولم نتأوله بجماعة واحدة .

وأما { ولم يفرقوا بين أحد منهم } فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام ، ولذلك جاء في سياق النفي ، فعم وصلحت البينية للعموم .

واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد ، ويكون قد حذف معطوف ، أي بين واحد وواحد من رسله ، كما قال الشاعر :

فما كان بين الخير لوجا سالماً *** أبو حجر إلا ليال قلائل

أي : لستن مثلهن إن اتقيتن الله ، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن .

وقال الزمخشري : { إن اتقيتن } : إن أردتن التقوى ، وإن كن متقيات .

{ فلا تخضعن بالقول } : فلا تجبن بقولكنّ خاضعاً ، أي ليناً خنثاً ، مثل كلام المريبات والمومسات .

{ فيطمع الذي في قلبه مرض } : أي ريبة وفجوراً . انتهى .

فعلى القول الأول يكون { إن اتقيتن } قيداً في كونهن لسن كأحد من النساء ، ويكون جواب الشرط محذوفاً .

وعلى ما قاله الزمخشري ، يكون { إن اتقيتن } ابتداء شرط ، وجوابه { فلا تخضعن } ، وكلا القولين فيهما حمل .

{ إن اتقيتن } على تقوى الله تعالى ، وهو ظاهر الاستعمال ، وعندي أنه محمول على أن معناه : إن استقبلتن أحداً ، { فلا تخضعن } .

واتقى بمعنى : استقبل معروف في اللغة ، قال النابغة :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد

أي : استقبلتنا باليد ، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن ، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها ، إذ هن متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى .

قال ابن عباس : لا ترخصن بالقول .

وقال الحسن : لا تكلمن بالرفث .

وقال الكلبي : لا تكلمن بما يهوى المريب .

وقال ابن زيد : الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل .

وقيل : لا تلن للرجال القول .

أمر تعالى أن يكون الكلام خيراً ، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين ، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه ، مثل كلام المومسات ، فنهاهن عن ذلك ، وقال الشاعر :

يتكلم لو تستطيع كلامه *** لانت له أروى الهضاب الصخر

وقال آخر :

لو أنها عرضت لأشمط راهب *** عبد الإله ضرورة المتعبد

لرنا لرؤيتها وحسن حديثها *** ولحالها رشداً وإن لم يرشد

وقرأ الجمهور : { فيطمع } ، بفتح الميم ونصب العين ، جواباً للنهي ؛ وأبان بن عثمان ، وابن هرمز : بالجزم ، فكسرت العين لالتقاء الساكنين ، نهين عن الخضوع بالقول ، ونهى مريض القلب عن الطمع ، كأنه قيل : لا تخضع فلا تطمع .

وقراءة النصب أبلغ ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع .

وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى : فيَطمِع ، بفتح الياء وكسر الميم .

ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء ، قال : وقد روي عن ابن محيصن ، وذكر أن الأعرج ، وهو ابن هرمز ، قرأ : فيُطمِعَ ، بضم الياء وفتح العين وكسر الميم ، أي فيطمع هو ، أي الخضوع بالقول ؛ والذي مفعول ، أو الذي فاعل والمفعول محذوف ، أي فيطمع نفسه .

والمرض ، قال قتادة : النفاق ؛ وقال عكرمة : الفسق والغزل .

{ وقلن قولاً معروفاً } : والمحرم ، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول .

قال ابن عباس : المرأة تندب إذا خالطت الأجانب ، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع الصوت ، فإنها مأمورة بخفض الكلام .

وقال الكلبي : معروفاً صحيحاً ، بلا هجر ولا تمريض .

وقال الضحاك : عنيفاً ؛ وقيل : خشناً حسناً ؛ وقيل : معروفاً ، أي قولاً أُذن لكم فيه ؛ وقيل : ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام .