اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

قوله : { يا نساء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النساء } قال الزمخشري : «أحد » في الأصل{[43479]} يعني وَحَد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث ، والواحد وما وراءه ، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء ( أي ){[43480]} إذا تَقَصَّيْتَ{[43481]} جماعات النساء{[43482]} واحدةً واحدةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة . ومنه قوله عز وجل : { والذين آمَنُوا بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين{[43483]} . قال أبو حيان أما قوله : «أحَد » في الأصل بمعنى «وحد » وهو الواحد فصحيح{[43484]} ، وأما قوله : وضع إلى قوله وما وراءه . فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن «واحد » ينطلق{[43485]} على شيء اتصف بالوحدة «وأَحَداً » المستعمل في النفي العام مختص{[43486]} بمن يعقل ، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة «أحد » بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً ، وأما قوله : «لَسْتُنَّ كجماعة واحدة » فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع ، وأما { وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } فيحتمل أن يكون الذي يستعمل في النفي العام ؛ ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت التثنية للعموم ، ويحتمل أن يكون «أحدٌ » بمعنى «واحد » وحذفَ معطوفٌ ، أي بين أحدٍ وأحدٍ{[43487]} ( كما قال{[43488]} : )

4086 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً *** أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ{[43489]}

أي بين الخير وبيني انتهى ، قال شهاب الدين «أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم ، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي ، ولا يمنع أن «أحداً » الذي أصله «واحد » أن يقع في سياق النفي ، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب{[43490]} ، وكَيْتَع ودَابِر{[43491]} ، وتامر{[43492]} ، والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء ، وهذا لا يختص ، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر »{[43493]} .

قوله : «إن اتَّقَيْتُنَّ » في جوابه وجهان :

أحدهما : أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء{[43494]} .

والثاني : أن جوابه قوله «فَلاَ تَخْضَعْنَ »{[43495]} والتقوى على بابها ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون «اتَّقَى » بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن{[43496]} أحداً فلا تُلِنَّ له القول ، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة ، وأنشد :

4087 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ *** فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنَا بِاليَدِ{[43497]}

أي واستقبلتنا باليد قال : «ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن ؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع{[43498]} بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى »{[43499]} ، قال شهاب الدين : هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاً على بابه أي صانت وجهها بيدها{[43500]} عنا .

قوله : «فَيَطْمَعَ » العامة على نصبه جواباً للنهي ، والأعرج{[43501]} بالجزم فيكسر{[43502]} العين لالتقاء الساكنين{[43503]} وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم{[43504]} ، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة . وروى عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم{[43505]} من «أَطْمَع » وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على الخضوع المفهوم من الفعل و «الذي » مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ ، ويحتمل أن يكون «الذي » فاعلاً ، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه{[43506]} .

فصل :

قال ابن عباس : معنى لسْتُنَّ كأحد من النساء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء{[43507]} الصالحات أنتن أكرم عليّ ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ ، ولم يقل كواحد لأن{[43508]} الأحد عام يصلح للواحد ، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث . قال تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ } [ البقرة : 285 } وقال : { فَمَا مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] وقوله : «إِنْ اتَّقَيْتُنَّ » الله فأطعتنّه ، ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته ، وهي المحادثة مع الرجال فقال : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } أي تُلِنَّ القولَ للرجال ، ولا ترفضن الكلام { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فسق وفجور وشهوة ، وقيل : نِفاق ، أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع{[43509]} فيكُنَّ . والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع{[43510]} { وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً } أي ذكر الله{[43511]} ، وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع .


[43479]:قاله في الكشاف 3/359.
[43480]:سقطت من "ب".
[43481]:هكذا هي في الكشاف وما في "ب" نقصت.
[43482]:وهي أمة النساء وجماعة لم توجد منهن جماعة.
[43483]:في الكشاف المبين.
[43484]:البحر المحيط 7/229.
[43485]:في "ب" مطلقة.
[43486]:في "ب" وهو ما في البحر مخصوص.
[43487]:البحر 7/228.
[43488]:ساقط من "ب".
[43489]:البيت من بحر الطويل وهو للنابغة الذبياني، وأبو حجر كناية عن النعمان بن الحارث وشاهده: حذف الواو ومعطوفها والأصل: بين الخير وبيني فقد حذف الواو مع معطوفها وهذا تقرير لقول أبي حيان الذي أجاز هذا الاحتمال. انظر: البحر المحيط 7/229 وابن الناظم بدر الدين على الألفية 214 وأوضح المسالك لابن هشام 192 والأشموني 3/116 والتصريح 2/153 والديوان (120).
[43490]:يقال: ما في الدار غريب في النفي ولا يقال: في الدار غريب لعدم الفائدة وكذا: ما بالدار كيتع، أي أحد اللسان: "ك ت ع" 3820 وإصلاح المنطق 391.
[43491]:من أقوالهم: ما يعرف قَبيلُهُ من دبيره، وفلان ما يدري قبيلاً من دبير، المعنى ما يدري شيئاً اللسان: "د ب ر" 1319.
[43492]:قالوا: ما في الدار تَامُور وتُومُور، وما بها تُومري أي ليس بها أحد. وقال أبو زيد: ما بها تأمور أي ما بها أحد اللسان "ت م ر "446.
[43493]:انظر: الدر المصون 4/383 و 384.
[43494]:قاله السمين في الدر 4/384 وقدره ابن الأنباري في البيان انفردتن بخصائص من جملة سائر النساء البيان 2/268.
[43495]:المرجعان السابقان.
[43496]:البحر المحيط 7/229 واستدل بالبيت الأعلى.
[43497]:البيت من الكامل وهو للنابغة في مدح "المتجردة" زوج النعمان بن المنذر، والنصيف غطاء الرأس للمرأة وهو الخِمار، وقيل: ما تشد به رأسها وهو المعجر والشاهد فيه: استعمال "اتقى" بمعنى استقبل كما قرره أبو حيان، أي استقبلتنا باليد. انظر: ديوانه 93 والأشموني 2/191 ولسان العرب "نصف" والبحر المحيط 7/229 والدر المصون 4/385.
[43498]:في البحر: " ولا علق نَهْيُهُنَّ عن الخضوع".
[43499]:البحر المحيط لأبي حيان 7/229.
[43500]:ذكره في الدر المصون 4/385.
[43501]:هو عبد الرحمن بن هرمز قد عرفت به فيما سبق.
[43502]:في "ب" بكسر- بالباء-.
[43503]:ذكرها كل من ابن جني وابن خالويه في كتابيهما الأول في المحتسب 2/181 والثاني في المختصر ص 119 وهي من الشواذ غير المتواترة. البحر المحيط لأبي حيان 7/230.
[43504]:ابن خالويه 119 وهي من الأربع الشواذ فوق العشرة المتواترة الإتحاف 355 والبحر 7/230.
[43505]:انظر: شواذ القرآن 194 والبحر 7/230 مروية عن ابن محيصن أيضاً.
[43506]:قاله السمين في الدر 4/385.
[43507]:نقله ابن الجوزي في زاد المسير 6/378.
[43508]:قاله القرطبي في 14/177.
[43509]:في "ب" إلى الطامع.
[43510]:نقله الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره المسمى زاد المسير 6/379.
[43511]:وقد فسره ابن عباس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انظر: القرطبي 14/178.