الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

قوله : { كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } : قال الزمخشري : " أَحَد " في الأصل بمعنى وَحَد . وهو الواحد ، ثم وُضِع في النفي العام مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ وما وراءَه . والمعنى : لَسْتُنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعات النساء أي : إذا تَقَصَّيْتَ جماعةَ النساءِ واحدةً واحدةً لم توجَدْ منهنَّ جماعةٌ واحدة تُساويكُنَّ في الفضل والسابقةِ . ومنه قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدةٍ منهم تسويةً بين جميعِهم في أنهم على الحقِّ المُبين . قال الشيخ : " أمَّا قوله " أحد " في الأصل بمعنى وَحَد وهو الواحد فصحيح . وأمَّا قولُه : " وُضِع " إلى قوله : " وما وراءه " فليس بصحيحٍ ؛ لأنَّ الذي يُسْتعمل في النفي العامِّ مدلولُه غيرُ مدلولِ واحد ؛ لأنَّ واحداً ينطلقُ على كلِّ شيءٍ اتصفَ بالوحدةِ ، وأحداً المستعمل في النفي العامِّ مختصٌ بمَنْ يَعْقِل . وذكر النحويون أنَّ مادتَه همزة وحاء ودال ، ومادة " أحد " بمعنى واحد : واو وحاء ودال ، فقد اختلفا مادةً ومدلولاً . وأمَّا قولُه : لَسْتُنَّ كجماعة واحدة ، فقد قُلنا : إن معناه ليسَتْ كلُّ واحدةٍ منكنَّ . فهو حَكَمَ على كلِّ واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموعٌ . وأمَّا { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] فاحتمل أَنْ يكونَ الذي يُستعمل في النفي العام ؛ ولذلك جاء في سِياقِ النفي فعَمَّ . وصلَحَت البَيْنِيَّة للعموم . ويحتمل أَنْ يكونَ " أحد " بمعنى واحد ، وحُذِفَ معطوف ، أي : بين أحدٍ وأحدٍ . كما قال :

فما كان بينَ الخيرِ لو جاء سالماً *** أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قَلائِلُ

أي : بين الخير وبيني " . انتهى . قلت : أمَّا قولُه فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فَمُسَلَّمٌ . ولكن الزمخشريَّ لم يجعلْ أحداً الذي أصله واحد بمعنى أَحَد المختصِّ بالنفي ، ولا يمنع أن أحداً الذي أصلُه واحد أن يقعَ في سياقِ النفيِ . وإنما الفارقُ بينهما : أنَّ الذي همزتُه أصلٌ لا يُستعمل إلاَّ في النفي كأخواته من عَرِيْب وكَتِيْع ووابِر وتامِر . والذي أصله واحد يجوز أن يُستعمل إثباتاً ونفياً . والفرقُ أيضاً بينهما : أنَّ المختصَّ بالنفي جامدٌ ، وهذا وصْفٌ . وأيضاً المختصُّ بالنفي مختصٌّ بالعقلاء وهذا لا يختصُّ . وأمَّا معنى النفي فإنه ظاهرٌ على ما قاله الزمخشريُّ من الحكم على المجموعِ ، ولكنَّ المعنى على ما قاله الشيخ أوضحُ وإن كان خلافَ الظاهر .

قوله : " إنِ اتَّقَيْتُنَّ " في جوابه وجهان ، أحدهما : أنه محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي : إنْ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كأحدٍ . فالشرط قيدٌ في نفي أَنْ يُشَبَّهْنَ بأحدٍ من النساء . الثاني : أنَّ جوابَه قولُه : " فلا تَخْضَعْنَ " والتقوى على بابها . وجَوَّزَ الشيخُ على هذا أن يكونَ اتَّقى بمعنى استقبل أي : استَقْبَلْتُنَّ أحداً فلا تَلِنَّ له القولَ .

واتقى بمعنى استقبل معروفٌ في اللغة . وأنشد :

سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه *** فتناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا باليَدِ

أي : واستقبَلَتْنا باليد . قال : " ويكون هذا المعنى أبلغَ في مدحِهنَّ إذ لم يُعَلِّقْ فضيلتَهنَّ على التقوى ولا على نَهْيه عن الخضوع بها ؛ إذ هنَّ مُتَّقِياتٌ لله تعالى في أنفسهنَّ . والتعليقُ يقتضي ظاهرُه أنهنَّ لَسْنَ متحلِّياتٍ بالتقوى " .

قلت : هذا خروجٌ عن الظاهرِ من غير ضرورةٍ . وأمَّا البيتُ فالاتِّقاءُ أيضاً على بابِه/ أي صانَتْ وجهَها بيدِها عنا .

قوله : " فَيَطْمَعَ " العامَّةُ على نصبه جواباً للنهي . والأعرج بالجزم فيكسِرُ العينَ لالتقاءِ الساكنين . ورُوي عنه وعن أبي السَّمَّال وابن عمر وابن محيصن بفتح الياء وكسر الميم . وهذا شاذٌّ ؛ حيث تَوافَقَ الماضي والمضارعُ في حَرَكةٍ . ورُوي عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضمِّ الياء وكسرِ الميم مِنْ أطمع . وهي تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً عائداً على الخضوعُ المريضَ القلبِ . ويحتمل أن يكون " الذي " فاعلاً ، ومفعوله محذوف أي : فيُطْمِع المريضُ نفسَه .