معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

قوله عز وجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن ناسا من أهل الشرك ، كانوا قتلوا ، وأكثروا ، وزنوا ، وأكثروا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة ، فنزلت هذه الآية . وقال عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك ، وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق آثاماً ، يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ؟ فأنزل { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } ( مريم-60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه ، فهل غيره ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء-48 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا ؟ فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } فقال وحشي : نعم ، هذا فجاء وأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال : بل للمسلمين عامة . وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر من المسلمين ، كانوا قد أسلموا ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً . قوم أسلموا ، ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وإلى أولئك النفر ، فأسلموا وهاجروا . وروى مقاتل بن حيان ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } ( محمد-33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها ، قلنا : قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر . وروي عن ابن مسعود : أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص ، وهو يذكر النار ، والأغلال ، فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ؟ ثم قرأ :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } .

أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا أبو محمد عبد بن أحمد الحموي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا حيان بن هلال ، وسليمان بن حرب ، وحجاج بن منهال ، قالوا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ولا يبالي " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن عدي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله ، هل لي من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة ، فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت ، فنأى بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي ، وأوحى إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " . ورواه مسلم بن الحجاج ، عن محمد بن المثنى العنبري ، عن معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن قتادة بهذا الإسناد ، وقال : " فدل على راهب فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله ، وكمل به مائة ، ثم سئل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن به أناساً يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم حكما ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال رجل - لم يعمل خيراً قط - لأهله إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين . قال : فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له " .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة ، بن عمار ، حدثنا ضمضم بن حوشب ، قال : دخلت المدينة فناداني شيخ ، فقال : يا يماني تعال وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الله الجنة ، قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة قال : فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله ، إذا غضب ، أو لزوجته ، أو لخادمه ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر كان مذنبا ، فجعل يقول له : أقصر عما أنت فيه ، قال : فيقول : خلني وربي ، قال : حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيباً ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبداً ، ولا يدخلك الجنة أبداً ، قال : فبعث الله إليهما ملكاً يقبض أرواحهما فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب ، فقال اذهبوا به إلى النار " . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته . قوله عز وجل : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال ، أنبأنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { إلا اللمم } ( النجم-32 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جما* وأي عبد لك لا ألما " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وبدا لهم سيئات

ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة . ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية . ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين . ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا ، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان . .

( قل : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم ) . .

إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث ! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .

يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ؛ ويوسع له في الرحمة ؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :

قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم . .

وليس بينه - وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان :

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

أُطنبتْ آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف ، على رغْممِ تظاهرهم بقلة الاهتمام بها . وقد يبلغ بهم وقعها مبلغَ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها ، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب .

والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين ، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة والحليمُ يزجُر ويلين وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا أو حببهم في الحق فأبغضوا فلعله لا يَفتح لهم باب التوبة ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوْبَة ولاسيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه المشتَمِّ منه ترقبُ قطع الجدال وفصمِه فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيساً عليه وتفتيحاً لباب الأوْبة إليه فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة { قُل } استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول .

وجملةُ { ياعبادي } استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم . وابتداء الخطاب بالنداء وعنواننِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة .

والخطاب بعنوان { ياعبادي } مراد به المشركون ابتداءً بدليل قوله : { وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب } [ الزمر : 54 ] وقوله : { وإن كنت لمن الساخرين } [ الزمر : 56 ] وقوله : { بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } [ الزمر : 59 ] . فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر { عبادي } بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى .

وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس « أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا ، وزنَوا وأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية فنزل : { والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] يعني إلى قوله : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 70 ] ونزل : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه } .

وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة .

ومن أجمل الأخبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : « لما اجتمعنا على الهجرة اتَّعدتُ أنا وهشامُ بن العاص السهمي ، وعيّاش بن أبي ربيعة بن عتبة . فقلنا : الموعد أَضَاةُ بني غِفَار ، وقلنا : من تأخّرَ منّا فقد حُبس فليمضضِ صاحباه . فأصبحتُ أنا وعياش بن عتبة وحُبس عنا هشام وإذا هو قد فُتِن فافتَتَنَ فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عَرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة . وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله : { قل ياعبادي الذين أسرفوا } إلى قوله : { مَثْوى للمتكبرين } [ الزمر : 60 ] قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمتْ عليَّ خرجتُ بها إلى ذي طوَى فقلت : اللهم فهِّمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعتُ فجلست على بعيري فلحقت برسول الله ا ه . فقول عمر : فأنزل الله يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي .

فالخطاب بقوله : ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله : { وأنيبوا إلى ربكم } [ الزمر : 54 ] . وبعد هذا فعموم عبادي وعموم صلة الذين أسرفوا } يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعُها .

وقرأ الجمهور { ياعبادي الذين أسرفوا } بفتح ياء المتكلم ، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء . ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } [ الزمر : 10 ] ، أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم ، فكان إثبات ( يا ) المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلُّم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده .

والإِسراف : الإِكثار . والمراد به هنا الإِسراف في الذنوب والمعاصي ، وتقدم ذكر الإِسراف في قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة [ النساء : 6 ] وقوله : { فلا يسرف في القتل } في سورة [ الإسراء : 33 ] . والأكثر أن يعدّى إلى متعلِّقه بحرف { مِن } ، وتعديتُه هنا ب ( على ) لأن الإِكثار هنا من أعماللٍ تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبِعات والعدوان تقول : أكثرت على فلان ، فمعنى { أسرفوا على أنفسهم } : أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات .

والقنوط : اليأس ، وتقدم في قوله : { فلا تكن من القانطين } في سورة [ الحِجر : 55 ] .

وجملة { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله .

ومادة الغفر ترجع إلى الستر ، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجَه للستر فدل { يغْفِرُ الذُّنوب } على أن الذنوب ثابتة ، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها ، أي يزيل المؤاخذة بها ، وهذه المغفرة تقتضي أسباباً أُجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسباباً تطرأ على المذنب ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثاً ينزه عنه الحكيم تعالى ، كيف وقد سماها ذنوباً وتوعد عليها فكان قوله : { إن الله يغفر الذنوب } دعوةً إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها . و { جميعاً } حال من { الذنوب } ، أي حال جميعها ، أي عمومها ، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك . وسيأتي الكلام على كلمة ( جميع ) عند قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته } في هذه السورة [ 67 ] .

وجملة { إنه هو الغفور الرحيم } تعليل لجملة { يغفر الذنوب جميعاً } أي لا يُعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة . فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإِيمان شيء .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية؛ فقال بعضهم: عني بها قوم من أهل الشرك، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا، وقتلنا النفس التي حرّم الله، والله يعد فاعل ذلك النار، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان، فنزلت هذه الآية...

وقال آخرون: بل عُني بذلك أهل الإسلام، وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم، فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة... وقال آخرون: نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عمّ بقوله:"يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ" جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.

فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك. وإنما عني بقوله: "إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعا "لمن يشاء...

وأما قوله: "لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ" فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله...

وقوله: "إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا" يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها.

"إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ" بهم، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها...

{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} يعني بشرط التوبة، وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه؛ لأنّ القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه، وتوبة العاصي تمحو ذنبه...

وقوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} عموم بمعنى الخصوص؛ لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعاً، وهي أيضاً في المعاصي مقيدة بالمشيئة.

{جميعاً} نصب على الحال...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه:

الأول: أنه سمى المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج.

الثاني: أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال: {يا عبادي الذين أسرفوا} وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب.

الثالث: أنه تعالى قال: {أسرفوا على أنفسهم} ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم.

الرابع: أنه قال: {لا تقنطوا من رحمة الله} نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمرا بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة...عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة "أخرجه الترمذي.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما حذر سبحانه في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير، وأودعها من التهديد وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير، وختم بالحث على الإيمان، والنظر السديد في العرفان، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست ونفرت وأوحشت، وصدت عن العطف وأبعدت، قال تعالى مستعطفاً مترفقاً بالشاردين عن بابه متلطفاً جامعاً بين العاطفين، كلام ذوي النعمة على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة: {قل} أي يا أكرم الخلق وأرحمهم بالعباد، ولفت عما تقتضيه "قل "من الغيبة إلى معنى الخطاب زيادة في الاستعطاف، وزاد في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم فقال: {يا} أي ربكم المحسن إليكم يقول: يا {عبادي} فلذذهم بعد تلك المرارات بحلاوة الإضافة إلى جنابه تقريباً من بابه.

ولما أضاف، طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين، فرفعوا رؤوسهم، ونكس العاصون وقالوا: من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال؟ فقال تعالى جابراً لهم:

{الذين أسرفوا} أي تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى صارت لهم أحمال ثقال.

{على أنفسهم} فأبعدوها عن الحضرات الربانية، وأركسوها في الدنايا الشيطانية، فانقلب الحال، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذلتهم والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم -قاله القشيري، وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير.

{لا تقنطوا} أي ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا- وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام فقال: {من رحمة الله} أي إكرام المحيط بكل صفات الكمال، فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم، ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران، وحتمت الجزاء بالانتقام، وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للحال، وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم: {إن الله} أي الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال والإكرام، فكما أنه متصف بالانتقام وهو متصف بالعفو والغفران {يغفر} إن شاء.

{الذنوب} ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده فقال: {جميعاً} ولا يبالي، لكنه سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه، وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة وإن شاء بلا توبة، ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك.

ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم، قام عليه جنده فانحل عقده وانثلم حده، علل هذه العلة بما يخصه، فقال مؤكداً لاستبعاد ذلك بالقياس على ما يعهدون: {إنه هو} أي وحده {الغفور} أي البليغ المغفرة بحيث يمحو الذنوب مهما شاء عيناً وأثراً، فلا يعاقب ولا يعاتب.

{الرحيم} أي المكرم بعد المغفرة ولا يقدر أحد أصلاً على نوع اعتراض عليه، ولا توجيه طعن إليه...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{لاَ تَقْنَطُواْ مِن رحْمَةِ الله} أي لا تيأسُوا من مغفرته أولاً ولا تفضُّلِه ثانياً.

{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} عفواً لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة بغيره حسبما يشاء.

وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء، الآية116] ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ، وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} على المبالغة، وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة مَّما في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم.

وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم، والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقاً عن الرَّحمةِ، فضلاً عن المغفرة، وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ، ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ. والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم، ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ، فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ، والإخلاصِ في قوله تعالى: {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه، الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظنّ بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته، ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم، وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً: إنه هو الغفور الرحيم، أي: كثير المغفرة، والرحمة عظيمهما بليغهما، واسعهما، فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظنّ أن تقنيط عباد الله، وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة {قُل} استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول.

وجملةُ {ياعبادي} استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم. وابتداء الخطاب بالنداء وعنوانِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة.

والخطاب بعنوان {ياعبادي} مراد به المشركون ابتداءً بدليل قوله: {وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب} [الزمر: 54] وقوله: {وإن كنت لمن الساخرين} [الزمر: 56] وقوله: {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} [الزمر: 59]. فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر {عبادي} بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى.

وفي « صحيح البخاري» عن ابن عباس « أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا، وزنَوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون} [الفرقان: 68] يعني إلى قوله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} [الفرقان: 70] ونزل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه}

والخطاب بقوله: {ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله: {وأنيبوا إلى ربكم} [الزمر: 54]، وبعد هذا فعموم عبادي وعموم صلة الذين أسرفوا} يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعُها.

وجملة {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله، ومادة الغفر ترجع إلى الستر، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجَه للستر فدل {يغْفِرُ الذُّنوب} على أن الذنوب ثابتة، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها، أي يزيل المؤاخذة بها، وهذه المغفرة تقتضي أسباباً أُجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه: 82]،، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسباباً تطرأ على المذنب، ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثاً ينزه عنه الحكيم تعالى، كيف وقد سماها ذنوباً وتوعد عليها فكان قوله: {إن الله يغفر الذنوب} دعوةً إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها...