الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } في مشركي أهل مكة .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر رضي الله عنهما [ ] فكتبتها بيدي ثم بعثت إلى هشام بن العاصي .

وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان بسند لين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإِسلام ، فأرسل إليه : يا محمد كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل ، أو أشرك ، أو زنى ، { يلقَ أثاماً } { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً } [ الفرقان : 69 ] وأنا صنعت ذلك فهل تجد لي من رخصة ؟ فأنزل الله { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } [ الفرقان : 70 ] فقال وحشي : هذا شرط شديد { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 70 ] فلعلي لا أقدر على هذا . فأنزل الله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فقال وحشي : هذا أرى بعد مشيئة فلا يدري يغفر لي أم لا فهل غير هذا ؟ فأنزل الله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . } الآية قال وحشي : هذا فهم . فأسلم ، فقال الناس : يا رسول الله : إنا أصبنا ما أصاب وحشي قال : بلى للمسلمين عامة » .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما أسلم وحشي أنزل الله { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } [ الفرقان : 68 ] قال وحشي وأصحابه : فنحن قد ارتكبنا هذا كله . فأنزل الله { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . } الآية .

وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن وحشي قال : لما كان في أمر حمزة ما كان ألقى الله خوف محمد صلى الله عليه وسلم في قلبي خرجت هارباً أكمن النهار ، وأسير الليل ، حتى صرت إلى أقاويل حمير ، فنزلت فيهم ، فأقمت حتى أتاني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني إلى الإِسلام ؟ قال : تؤمن بالله ، ورسوله ، وتترك الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وشرب الخمر ، والزنا ، والفواحش كلها ، وتستحم من الجنابة ، وتصلي الخمس . قال : إن الله قد أنزل هذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فصافحني وكناني بأبي حرب .

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه يضحكون فقال : « والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً . ثم انصرف وبكى القوم ، فأوحى الله إليه : يا محمد لم تقنط عبادي ؟ فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أبشروا ، وقربوا ، وسددوا » .

وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال : اتفقت أنا ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاصي بن وائل أن نهاجر إلى المدينة . فخرجت أنا وعياش وفتن هشام فافتتن ، فقدم على عياش أخوه أبو جهل ، والحارث بن هشام ، فقالا : إن أمك قد نذرت أن لا يظلها ظل ، ولا يمس رأسها غسل حتى تراك . فقلت : والله إن يريداك إلا أن يفتناك عن دينك وخرجا به . وفتنوه فافتتن قال : فنزلت { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } قال عمر رضي الله عنه : فكتبت إلى هشام فقدم .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } وذلك أن أهل مكة قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له . فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة ، وقتلنا النفس ، ونحن أهل الشرك ؟ فأنزل الله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } وقال « وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له » وإنما يعاتب الله أولي الألباب ، وإنما الحلال والحرام لأهل الإِيمان ، فإياهم عاتب ، وإياهم أمر إذا أسرف أحدهم على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله وأن يتوب ، ولا يضن بالتوبة على ذلك الإِسراف والذنب الذي عمل ، وقد ذكر الله تعالى في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا المغفرة فقالوا : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } [ آل عمران : 147 ] فينبغي أن يعلم أنهم كانوا يصيبون الأمرين فأمرهم بالتوبة .

وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشي وأصحابه { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } إلى قوله { وأنتم لا تشعرون } [ النساء :110 ] .

وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ، ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً . أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه ، فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر بن الخطاب كاتباً فكتبها بيده ، ثم كتب بها إلى عياش ، والوليد ، وإلى أولئك النفر . فاسلموا وهاجروا .

وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ثوبان قال : سمعت رسول الله ، يقول : « ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . } إلى آخر الآية . فقال رجل : يا رسول الله فمن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم قال : إلا ومن أشرك ثلاث مرات » .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ { يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ولا يبالي أنه هو الغفور الرحيم » .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن مسعود أنه مر على قاصٍّ يذكر الناس فقال : يا مذكر الناس لا تقنط الناس ، ثم قرأ { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } .

وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال علي أي آية أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن { من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } [ النساء : 110 ] ونحوها . فقال علي رضي الله عنه : ما في القرآن أوسع آية من { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . } .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . } . قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ، ومن زعم أن المسيح ابن الله ، ومن زعم أن عزيراً ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة . يقول الله تعالى لهؤلاء { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } [ المائدة : 74 ] ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء . من قال { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] وقال { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : من آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال : إن إبليس قال : يا رب زدني قال : صدوركم مساكن لكم ، وتجرون منهم مجرى الدم قال : يا رب زدني . قال : { اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } [ الإسراء : 64 ] فقال آدم عليه السلام : يا رب قد سلطته عليَّ وأني لا أمتنع منه إلا بك فقال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء . قال : يا رب زدني . قال : الحسنة عشراً أو أزيد ، والسيئة واحدة أو امحوها قال : يا رب زدني قال : باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد .

قال : يا رب زدني قال { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } .

وأخرج أحمد وأبو يعلى والضياء عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم لغفر لكم . والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ، ثم يستغفرون فيغفر لهم » .

وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم » .

وأخرج الخطيب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود إن العبد من عبيدي ليأتيني بالحسنة فاحكمه فيّ قال داود عليه السلام . وما تلك الحسنة ؟ قال : كربة فرجها عن مؤمن قال داود عليه السلام : اللهم حقيق على من عرفك حق معرفتك أن لا يقنط منك .

وأخرج الحكيم الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال لي جبريل عليه السلام : يا محمد إن الله يخاطبني يوم القيامة ، فيقول : يا جبريل ما لي أرى فلان ابن فلان في صفوف أهل النار ؟ فأقول يا رب إنا لم نجد له حسنة يعود عليه خيرها اليوم . فيقول الله : إني سمعته في دار الدنيا يقول : يا حنان يا منان ، فأته فاسأله فيقول وهل من حنان ومنان غيري ؟ فآخذ بيده من صفوف أهل النار ، فادخله في صفوف أهل الجنة » .

وأخرج ابن الضريس وأبو القسام بن بشير في أماليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إن الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله تعالى ، ولم يرخص لهم في معاصيه ، ولم يؤمنهم عذاب الله ، ولم يدع القرآن رغبة منه إلى غيره . إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا علم لا فهم فيه ، ولا قراءة لا تدبر فيها .

وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال : إن للمقنطين جسراً يطأ الناس يوم القيامة على أعناقهم .

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ألم أحدث أنك تعظ الناس ؟ قال : بلى . قالت : فإياك وإهلاك الناس وتقنيطهم .

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رجلاً كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ، ويشدد على نفسه ، ويقنط الناس من رحمة الله تعالى ، ثم مات فقال : أي رب ما لي عندك ؟ قال : النار قال : فأين عبادتي واجتهادي ؟ فقيل له كنت تقنط الناس من رحمتي ، وأنا أقنطك اليوم من رحمتي .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال : ذكر لنا أن ناساً أصابوا في الشرك عظاماً فكانوا يخافون أن لا يغفر لهم ، فدعاهم الله بهذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا . . . } .

وأخرج عبد بن حميد عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي قال : « لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً . . . } إلى آخر الآية قام نبي الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس ، وتلا عليهم . فقام رجل فقال : يا رسول الله والشرك بالله ؟ فسكت فأعاد ذلك ما شاء الله ، فأنزل الله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] .

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } إلى قوله { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } [ الزمر : 54 ] قال عكرمة رضي الله عنه : قال ابن عباس رضي الله عنهما فيها علقة { وأنيبوا إلى ربكم } .