البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

{ قل يا عبادي الذين أسرفوا } : نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قاله عطاء ؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ، ففتنتهم قريش ، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم ، فكتب عمر لهم بهذه الآية ، قاله عمر والسدي وقتادة وابن إسحاق .

وقيل : في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا : وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النفس وأتينا كل كبيرة ؟ ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب ، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله ، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله .

وكثيراً تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف .

وهذه الآية عام في كل كافر يتوب ، ومؤمن عاص يتوب ، تمحو الذنب توبته .

وقال عبد الله ، وعلي ، وابن عامر : هذه أرجى آية في كتاب الله .

وتقدم الخلاف في قراءة { لا تقنطوا } في الحجر .

{ إن الله يغفر الذنوب جميعاً } : عام يراد به ما سوى الشرك ، فهو مقيد أيضاً بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة .

وفي قوله : { يا عبادي } ، بإضافتهم إليه وندائهم ، إقبال وتشريف .

و { أسرفوا على أنفسهم } : أي بالمعاصي ، والمعنى : إن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم ، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء ، وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب ، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى الله الذي هو أعظم الأسماء ، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء .

ثم أعاد الاسم الأعظم ، وأكد الجملة بأن مبالغة في الوعد بالغفران ، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة ، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر .

وقال الزمخشري : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ، شرط التوبة .

وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه ، لأن القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض .

انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة .