فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبه بذكر سعة رحمته ، وعظيم مغفرته ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم : أن يبشرهم بذلك ، فقال : { قُلْ يا عِبَادِي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } المراد بالإسراف : الإفراط في المعاصي ، والاستكثار منها ، ومعنى لا تقنطوا : لا تيأسوا من رحمة الله من مغفرته . ثم لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ، ويرفعه ، ويجعل الرجاء مكان القنوط ، فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } .

واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أوّلاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي ، والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى ، وبفحوى الخطاب ، ثم جاء بما لا يبقي بعده شك ، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنّ ، فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب } ، فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده ، فهو في قوّة إن الله يغفر كلّ ذنب كائناً ما كان ، إلا ما أخرجه النصّ القرآني ، وهو الشرك { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ، 116 ] ، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله : { جَمِيعاً } فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه ، الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظنّ بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل بمغفرته ، ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم ، وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً : إنه هو الغفور الرحيم ، أي : كثير المغفرة ، والرحمة عظيمهما بليغهما ، واسعهما ، فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وظنّ أن تقنيط عباد الله ، وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به ، فقد ركب أعظم الشطط ، وغلط أقبح الغلط ، فإن التبشير ، وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز ، والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله : «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا » وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أن الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ، 116 ] هو أن كلّ ذنب كائناً ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له ، على أنه يمكن أن يقال : إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانها جميعاً ، وذلك يستلزم : أنه يشاء المغفرة لكلّ المذنبين من المسلمين ، فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية . وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة ، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين ، وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات . فهو جمع بين الضب والنون ، وبين الملاح والحادي ، وعلى نفسها براقش تجني ، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع ، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين ، وقد قال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ، 116 ] ، فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة ، وقد قال سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] قال الواحدي : المفسرون كلهم قالوا : إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام ، كالشرك وقتل النفس ، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : هب أنها في هؤلاء القوم ، فكان ماذا ؟ ، فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم ، ولو كانت الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها ، واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله .

وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما إن عرفه المطلع عليه حقّ معرفته ، وقدره حقّ قدره علم صحة ما ذكرناه ، وعرف حقية ما حررناه .

قرأ الجمهور : { يا عبادي } بإثبات الياء ، وصلا ، ووقفا ، وروى أبو بكر عن عاصم : أنه يقف بغير ياء . وقرأ الجمهور { تقنطوا } بفتح النون . وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسرها .

/خ61