الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

ثم قال تعالى ذكره : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } .

قال ابن عباس : قال بعض أهل مكة : يزعم محمد أنه من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك ، فأنزل الله عز وجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا{[59060]} } الآية{[59061]} .

وقيل : إنها نزلت في نفر من المشركين خلا الإيمان في قلوبهم فقالوا في أنفسهم : ما نظن أن الله عز وجل يقبل توبتنا وإيماننا وقد صنعنا بمحمد صلى الله عليه وسلم كل شر : أخرجناه ، وقتلنا أصحابه ، وقاتلناه . فأباح الله تعالى لهم التوبة ونهاهم أن يقنطوا من رحمته{[59062]} .

/ قال مجاهد : الذين أسرفوا على أنفسهم هو قتل النفس في الجاهلية{[59063]} . وقال عطاء بن يسار{[59064]} : نزلت هذه الثلاث{[59065]} الآيات في وحشي وأصحابه{[59066]} ، وروى ذلك عن ابن عباس{[59067]} ، قال : فكان النبي لا يطيق أن ينظر إليه لأنه قتل حمزة فظن وحشي أن الله عز وجل لم يقبل إسلامه فنزلت هذه الآيات{[59068]} .

وقيل : نزلت في قوم أسلموا بمكة وخلفوا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقاموا بمكة يفتنهم المشركون عن دينهم فافتتنوا ، فكان بعضهم يقول : إن رجعت إلى الإسلام لم يقبلني محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقبل الله توبتي فأنزل الله عز وجل هذه الآيات فيهم{[59069]} .

فمعنى أسرفوا على أنفسهم على هذا القول ، أي : أسرفوا على أنفسهم بإقامتهم مع الكفار بمكة ، وظنهم أن الله عز وجل لا يقبل توبتهم ورجوعهم عن دينهم .

وقال قتادة : ذكر لنا أن قوما أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية فلما جاء الإٍسلام أشفقوا إن لم يتب{[59070]} عليهم ، فدعاهم الله بهذه الآية{[59071]} .

قال السدي : هي في المشركين ، كقول ابن عباس : وهو قول ابن زيد{[59072]} .

وكان ابن مسعود يقول{[59073]} : إن أكثر آية فرجا{[59074]} في القرآن : { يا عبادي الذين أسرفوا } الآية{[59075]} .

وروي عن عمر رضي الله عنه أنها نزلت في أهل الإسلام . قال : كنا نقول : لمن افتن من توبة . وكانوا يقولون : ما الله بقابل منا شيئا ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل{[59076]} فيهم : { يا عبادي الذين أسرفوا } الثلاث الآيات .

قال عمر : فكتبتها بيدي وبعثتها إلى هشام بن العاصي{[59077]} . قال هشام : فجعلت أقرؤها ولا أفهمها فوقع في نفسي أنها نزلت فينا لِما كُنّا نقول ، قال : فجلست على بعيري ثم لحقت بالمدينة{[59078]} .

وروي عن ابن عمر : أن هذه الآيات نزلن في عياش بن أبي ربيعة{[59079]} ، والوليد ابن الوليد{[59080]} ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا{[59081]} ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به ! فنزلت هذه الآيات{[59082]} .

وقال ابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن . فرد عليه ابن عباس وقال : بل أرجى آية في القرآن . { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم }{[59083]} .

وروى شهر{[59084]} عن أسماء{[59085]} أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في هذه الآية : " إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي ، إنه هو الغفور الرحيم " {[59086]} .

وقال القرظي{[59087]} هي للناس أجمع{[59088]} .

وقيل : المعنى : يغفر الذنوب جميعا لمن تاب{[59089]} .

( وهذا لجماع{[59090]} ) من تاب من كفره أو من ذنوبه فالله يغفر له ما تقدم من ذنوبه كلها{[59091]} .

وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله : { ومن يقتل مومنا متعمدا }{[59092]} الآية ، وبقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به }{[59093]} .

والصواب أن الآية خبر لا يجوز نسخه فهي محكمة{[59094]} على ما بينا من المعنى الذي ذكرنا .


[59060]:(ح): {أسرفوا على أنفسهم}.
[59061]:انظر: جامع البيان 24/10، وأسباب النزول 248، وجامع القرطبي 15/268، وتفسير ابن كثير 4/59.
[59062]:انظر: لباب النقول 189. وفي (ح): رحمة الله سبحانه.
[59063]:انظر: تفسير مجاهد 2/599، وجامع البيان 24/10.
[59064]:هو عطاء بن يسار أبو محمد الهلالي المدني، فقيه، ثقة. روى عن ابن مسعود وأبي بن كعب، وروى عنه أبو جعفر الباقر وعمرو بن دينار. توفي سنة 103، وقيل 94 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 1/90 ت80، وتقريب التهذيب 2/23 ت 204.
[59065]:(ح): الثلاثة.
[59066]:انظر: جامع البيان 24/10، والمحرر الوجيز 14/94.
[59067]:انظر: الدر المنثور 27/210.
[59068]:(ح) آية. انظر: معاني الفراء 2/421، وأسباب النزول 249، وجامع القرطبي 15/268، ولباب النقول 190.
[59069]:انظر: أسباب النزول 249.
[59070]:(ع) و(ح): (لم يتاب) والصواب ما أثبتناه لأن الأجوف الساكن يحذف وسطه.
[59071]:انظر: جامع البيان 24/10، والمحرر الوجيز 14/94.
[59072]:انظر: جامع البيان 24/10، وفي المحرر الوجيز 14/94 عن السدي فقط.
[59073]:ساقط من (ح).
[59074]:(ح): فرحا.
[59075]:انظر: جامع البيان 24/11، وتفسير ابن مسعود 542.
[59076]:(ح): أنزل الله.
[59077]:هو هشام بن العاص بن وائل بن هاشم، صحابي، هو أخو عمرو بن العاص، أسلم بمكة قديما، وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد إلى مكة حين بلغته هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة للحاق به، فحبسه أبوه وقومه بمكة حتى وقعة (الخندق)، ورحل إلى المدينة، فشهد عدة وقائع، واستشهد في أجنادين سنة 13 هـ. وقيل في اليرموك. انظر: طبقات ابن سعد 4/190، والإصابة 3/605 ت 8967.
[59078]:أخرجه الحاكم في مستدركه 2/435، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والهيثمي في مجمع الزوائد 6/61، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات، وأخرجه ابن جرير في جامع البيان 24/11 وابن هشام في سيرته 1/475. وانظره في إعراب النحاس 14/16، والمحرر الوجيز 14/94، وأسباب النزول 249، وجامع القرطبي 15/268، وتفسير ابن كثير 4/61.
[59079]:هو عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة القرشي المخزومي يكنى أبا عبد الرحمن، واسم أبيه عمرو، يلقب ذا الرمحين، أسلم قديما وهاجر الهجرتين استشهد باليمامة وقيل باليرموك وقيل مات سنة 15 هـ. انظر: الاستيعاب 3/1230ت 2009، والتقريب 2/95 ت 848.
[59080]:هو الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، من أشراف قريش وأجوادهم في الجاهلية، وهو أخو خالد بن الوليد. أدرك الإسلام وثبت على وثنية قومه، فأسره المسلمون يوم بدر، ثم أسلم. مات بالمدينة سنة 7 هـ. انظر: طبقات ابن سعد 4/131، وأُسد الغابة 4/678 ت 5472، والإصابة 3/639 ت 9151.
[59081]:(ح): الآية.
[59082]:انظر: جامع البيان 24/11، وأسباب النزول 248.
[59083]:الرعد آية 7. وانظر: إعراب النحاس 4/16، والمحرر الوجيز 14/95، وجامع القرطبي 15/269. ولم يرد في المحرر الوجيز رد ابن عباس.
[59084]:هو شهر بن حوشب أبو سعيد الأشعري الشامي ثم البصري، تابعي مشهور، فقيه وقارئ ومحدث. مات سنة 100 هـ. وقيل غير ذلك. انظر: الحلية 6/59 ت 328، وغاية النهاية 1/329 ت 1434، والتقريب 1/355 ت 112.
[59085]:هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأوسية، من أخطب النساء، ومن ذوات الشجاعة والإقدام، أسلمت في السنة الأولى من الهجرة وحضرت وقعة اليرموك سنة 13 هـ، كانت تسقي الظماء، وتضمد الجرحى، صرعت بعمود خيمتها تسعة من الروم. توفيت سنة 30 هـ. انظر: حلية الأولياء 2/76 ت 159، والإصابة 4/234 ت 58، والتقريب 2/589 ت 8.
[59086]:أخرجه الترمذي في أبواب التفسير، سورة الزمر، ح 3290 عن أسماء بمعناه، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب. وانظره في إعراب النحاس 4/16، وجامع القرظي 15/269، وتفسير ابن كثير 4/59.
[59087]:هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظي الأنصاري. صحابي جليل، عالم ثقة. توفي سنة 117 هـ. انظر: الحلية 3/212 ت 239، والاستيعاب 3/1377 ت 2343، وتقريب التهذيب 2/203 ت 659.
[59088]:انظر: جامع البيان 24/11.
[59089]:انظر: الإيضاح 398.
[59090]:(ح): (وهو من إجماع).
[59091]:انظر: الإيضاح 398.
[59092]:النساء آية 92.
[59093]:النساء: 47 و 115.
[59094]:انظر: الإيضاح 398.