فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

ثم ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبة بذكر سعة رحمته ، وعظيم معرفته ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشرهم بذلك فقال : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 ) } . { قُلْ : يَا عِبَادِيَ } قرئ بإثبات الياء وصلا ووقفا . وبغير الياء . وهما سبعيتان { الَّذِينَ أَسْرَفُوا } أي أفرطوا { عَلَى أَنْفُسِهِمْ } في الكفر أو المعاصي واستكثروا منها { لا تَقْنَطُوا } بفتح النون وبكسرها أي لا تيأسوا { مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي من مغفرته ، وفي هذه الآية من أنواع المعاني والبيان أشياء حسنة : منها إقباله تعالى عليهم ، ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله : { من رحمة الله } ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله الآتي : { إِنَّ اللَّهَ } ، قاله السمين .

وقال عبد الله وغيره : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى ، وبفحوى الخطاب قيل : وهذه عامة في كل كافر يتوب ، ومؤمن عاص يتوب ، فتمحو توبته ذنبه ، والمراد منها التنبيه على أنه لا ينبغي للعاصي أن يظن أنه لا مخلص له من العذاب ، فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله تعالى إذ لا أحد من العصاة إلا وإنه متى تاب زال عقابه ، وصار من أهل المغفرة والرحمة والحق أن الآية غير مقيدة بالتوبة بل هي على إطلاقها .

ولما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ، ويجعل الرجاء مكان القنوط ، وجاء بما لا يبقى بعده شك ، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن ، فقال :

{ إن الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس ، الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآني ، وهو الشرك ، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جَمِيعًا } فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم ، الصادقين في رجائه الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده ، المتوجهين إليه في طلب العفو ، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم ، وما أحسن ما علل به سبحانه هذا الكلام قائلا :

{ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما فأبرز الجملة مؤكدة بإن والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة ، فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به فقد ركب أعظم الشطط وغلط أقبح الغلط ، فإن التبشير وعدم التقنيط هو الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز والمسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله : ( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) {[1446]} .

وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } هو أن كل ذنب كائنا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له ، على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعا يدل على أنه يشاء غفرانهما جميعا ، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية .

وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين ، وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات فهو جمع بين الضب والنون وبين الملاح والحادي ، وعلى نفسها براقش تجني .

ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين ، ولذا قال { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فلو كانت التوبة قيدا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة ، وقد قال سبحانه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } قال الواقدي المفسرون كلهم قالوا إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : هب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا ؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم ، لا بخصوص السبب ، كما هو متفق عليه بين أهل العلم ، ولو كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة ، إن لم ترتفع كلها واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما لو عرفه المطلع عليه حق معرفته وقدره علم صحة ما ذكرناه ، وعرف حقيقة ما حررناه ، قال الشوكاني .

وعن ابن عمر قال : ( كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئا عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم ، وكانوا يقولونه لأنفسهم ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا َ } الآيات ، قال ابن عمر فكتبتها بيدي ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي ) .

وعن أبي سعيد قال : ( لما أسلم وحشي أنزل الله { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ، قال وحشي وأصحابه قد ارتكبنا هذا كله ، فأنزل الله { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا َ } ) الآية .

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون ، فقال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم انصرف وأبكى القوم ، وأوحى الله إليه يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبشروا وسددوا وقاربوا ) {[1447]} .

وعن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن افتتن وعن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوا إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك ، وقتل النفس وغير ذلك وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية ، فقال رجل : ومن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ألا ومن أشرك ، ثلاث مرات ) .

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنة وابن المنذر والحاكم وغيرهم عن أسماء بنت يزيد : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم ) وعن ابن مسعود أنه مر على قاص يذكر الناس فقال : يا مذكر الناس لا تقنط الناس ، ثم قرأ يا عبادي الآية .

وعن ابن سيرين قال : قال علي : أي آية أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن : { من يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية ونحوها ، فقال علي : ما في القرآن أوسع من { يا عبادي } الآية ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله ، ومن زعم أن عزير ابن الله ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ؟ ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء ، من قال { أنا ربكم الأعلى } وقال : { ما علمت لكم من إله غيري } قال ابن عباس : ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه .

وحديث أبي سعيد الخدري ( في رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ) في الصحيحين بطوله ، وكذا حديث رجل قال ( وذرُّوني في الريح ؟ ) فيهما بطوله ، عن أبي هريرة ، وعنه في سنن أبي داود حديث رجلين متحابين .

وعن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ، ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) {[1448]} أخرجه الترمذي والعنان السحاب ، والقراب بضم القاف هو ما يقارب ملؤها .


[1446]:البخاري 4/26 – 5/108- 7/101- 8/114 مسلم 5/141 – أحمد 4/412- 4/417.
[1447]:حديث قاربوا وسددوا أبشروا صحيح الجامع الصغير 4173.
[1448]:رواه الترمذي 2/270 والدرامي 2/322 وأحمد 5/172 و 5/154.