ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قل } يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أي : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن { لا تقنطوا } أي : لا تيأسوا { من رحمة الله } أي : إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل ، وفتحها الباقون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها { إن الله } أي : المتفضل على عباده المؤمنين { يغفر الذنوب } لمن تاب من الشرك { جميعاً } لمن يشاء كما قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء : 48 ) وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ( الأنفال : 38 ) .
تنبيه : في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى : { من رحمة الله } ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى : { إن الله } ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى { إنه هو } أي : وحده { الغفور } أي : البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب { الرحيم } أي : المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة » فنزلت هذه الآية . وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس : «أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله ، فأنزل الله سبحانه وتعالى { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } ( مريم : 60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء ، 48 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآية قال : نعم هذا . فجاء فأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة قال : بل للمسلمين عامة » .
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا ، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده ، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي » وروى الطبراني : «أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي : بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : إلاً من أشرك ثلاث مرات » .
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل ، فإذا راهب فسأله فقال : هل لي توبة فقال : لا فقتله وجعل يسأل فقال رجل : ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له » . وفي رواية فقال له : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال : لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال : «إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال : فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة » . وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } ( محمد : 33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله } وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.