السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قل } يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أي : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن { لا تقنطوا } أي : لا تيأسوا { من رحمة الله } أي : إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل ، وفتحها الباقون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها { إن الله } أي : المتفضل على عباده المؤمنين { يغفر الذنوب } لمن تاب من الشرك { جميعاً } لمن يشاء كما قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء : 48 ) وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ( الأنفال : 38 ) .

تنبيه : في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى : { من رحمة الله } ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى : { إن الله } ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى { إنه هو } أي : وحده { الغفور } أي : البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب { الرحيم } أي : المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة » فنزلت هذه الآية . وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس : «أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله ، فأنزل الله سبحانه وتعالى { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } ( مريم : 60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء ، 48 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآية قال : نعم هذا . فجاء فأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة قال : بل للمسلمين عامة » .

وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا ، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده ، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .

وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي » وروى الطبراني : «أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي : بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : إلاً من أشرك ثلاث مرات » .

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل ، فإذا راهب فسأله فقال : هل لي توبة فقال : لا فقتله وجعل يسأل فقال رجل : ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له » . وفي رواية فقال له : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال : لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال : «إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال : فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة » . وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } ( محمد : 33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله } وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر .