اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

قوله ( تعالى ){[47557]} : { قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . . . } الآية لما ذكرالوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله ، قيل : في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب{[47558]} ، في قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله : «إنَّ الله ، ومنها : إبراز الجملة من قوله «إنَّه هُو الغَفُور الرحيم » مؤكدة ب «إنّ » ، وبالفصل ، وبإعادة الصِّفََتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة{[47559]} .

فصل

روى سعيدُ بْنُ جُبَيْر عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا{[47560]} : إن الذين تدعو إليه لحسن إنْ كان لما عَمِلْنَا كفارة فنزلت هذه الآية ، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وَحْشِيّ{[47561]} قاتِل حمزة حين بعث إليه النبيّ- صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زَنَا { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة } [ الفرقان : 68 ، 69 ] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] فقال وَحْشيّ : هذا شرط شديد لَعَلِّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله - عز وجل- : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : { قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } قال وحشي : نعَمْ هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة » قال : بل للمسلمين عامة .

وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن{[47562]} أبي رَبيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافْتَتَنُوا وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عَدْلاً أبداً ( قوم ){[47563]} قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا . واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب{[47564]} .

فصل

دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جارٍ بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] وقال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله }

[ الإنسان : 6 ] وإذا كان لفظ العبد مذكوراً في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله : { يا عبادي } مختص بالمؤمنين ، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد الللات وعبد العُزى ( وعبد{[47565]} المسيح ) . وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى : { يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } عام في جميع المسرفين ، ثم قال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المَطْلُوبُ .

فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لَزِمَ القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال ، وأيضاً فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية { وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب } الآية ، ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعاً لما أمر عقيبه بالتوبة ، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله } الآية ؛ وأيضاً لو كان المراد ما دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراءً بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى . وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن ( العاصي ){[47557]} أن لا مخلصَ له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانطٌ جميعاً أي بالتوبة والإنابة .

فالجواب : ( قوله ){[47558]} إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون{[47559]} به قلنا : بَلَى نحن نقول به لأن صيغة «يَغْفر » للمضارع وهي الاستقبال وعنْدَنا أن الله يُخْرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعاً إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عينُ مذهبنا وأما قوله : لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة .

فالجواب : أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يُقْطَع بإزالة العقاب{[47560]} بالكلية بل نقول لعله يعفو{[47561]} مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم{[47562]} .

وروى مقاتل بن حيَّان عن نافع عن ابْن عُمَر قال : كنا معْشَر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 10 ] فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها ( قلنا : قد{[47563]} هلك فأنزل الله هذه الآية فَكَفْفنَا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحداً أَصاب ) منها شيئاً خِفْنا عليه وإن لم يُصب منها شيئاً رجوْنا له ، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر . ( وروي ){[47564]} عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصٌّ ( يقُصُّ ){[47565]} وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مُذكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ الناس ؟ ثُمَّ قرأ : «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ » . وعن أَسْمَاءَ بنتِ يزيد{[10]} قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :

«يَا عِبَادِي{[11]} الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( إنا الله يغفر الذنوب جميعاً{[12]} ولا يبالي ) » وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «قَال رَجُلٌ لم يعمل خيراً قط لأهله : إذا مات{[13]} فَحَرِّقُوه ثم ذَرُّوا نِصْفَهُ{[14]} في البَرّ ونصفَه في البحر فواللِّه لئن قَدَرَ الله عليه ليعذبنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فَأَمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه وأمر البَرَّ فجمع ما فيه ، ثم قال له : لِمَ فَعَلْتَ هذا قال : مِنَ خشيتك يا رب وأنتَ أعلمُ فَغَفَر لَهُ » . وعن ضَمْضَم بن حَوْشَ ( ب ){[15]} قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال : يا يمانيّ تَعالَ وما أعرفه فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة قال : فقلت إن هذه الكلمة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه{[16]} أو لخادمه قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : «إنَّ رَجُلَيْن كَانَا{[17]} فِي بني إسرائيل مُتَحَابِّيْنِ أحدهما مجتهدٌ{[18]} في العبادة والآخر كأنه{[19]} يقول : مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال : فيقول خلّني وربي قال : حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيباً فقال : والله لا يغفر لك الله أبداً ولا يدخلك الجنة أبداً قال : فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب فقال : اذهبوا به إلى النار » قال أبو هريرة : والَّذِي نفسي بيده ل ( قد ){[20]} تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته{[21]} .

قوله عز وجل : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } .

قوله : { يا عبادي } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء ، والباقون وعاصم- في بعض الروايات- بغير فتح ، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء ؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء{[22]} .

قوله : { لاَ تَقْنَطُواْ } قرأ أبو عمرو والكِسائي بكسر النون ، والباقون بفتحها ، وهما لُغَتَان{[23]} ، قال الزمخشري : وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود «يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمنْ يَشَاءُ »{[24]} .


[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[47557]:سقط من ب.
[47558]:في ب والسمين والبحر وهو الأصح: الغيبة وليس بالخطاب.
[47559]:وانظر هذا كله بالمعنى من بحر أبي حيان 7/434 وباللفظ من الدر المصون 4/657.
[47560]:في ب: وقال بالإفراد.
[47561]:هو وحشي بن حرب ويكنى أبا وسمة، وكان من سودان مكة عبدا لجبير بن مطعم قتل حمزة وأتى النبي مسلما وهو أول من حد بالشام في الخمر. المعارف لابن قتيبة 330.
[47562]:عمرو بن المغيرة المخزومي هاجر إلى الحبشة له أحاديث وعنه أنس وعبد الرحمن بن سابط قتل يوم اليرموك أو اليمامة. وانظر: الخلاصة 300.
[47563]:زيادة من البغوي. وانظر: البغوي والخازن 6/79 و 80 والقرطبي 15/268 و269 والكشاف 3/403.
[47564]:البغوي والمراجع السابقة.
[47565]:ما بين القوسين سقط من ب.