قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } ، كلمة التوحيد ، وهي قول : لا إله إلا الله { في الحياة الدنيا } ، يعني قبل الموت ، { وفي الآخرة } ، يعني في القبر . هذا قول أكثر أهل التفسير . وقيل : { في الحياة الدنيا } : عند السؤال في القبر ، { وفي الآخرة } : عند البعث . والأول أصح .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعد ابن عبيدة ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } " قال : نزلت في عذاب القبر يقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، ونبيي محمد ، فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عياش بن الوليد ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان ، فيقعدانه ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ، لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن ، فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله . فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراها جميعا قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس قال : وأما المنافق والكافر ، فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين " .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا عنبسة ابن سعيد بن كثير ، حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يسمع حس النعال إذا ولى عنه الناس مدبرين ، ثم يجلس ويوضع كفنه في عنقه ثم يسأل " .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما : المنكر ، وللآخر النكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ، فيقولان له : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه الله تعالى ، وإن كان منافقا أو كافرا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله ، لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " .
وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال : " فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فينتهرانه ويقولان له الثانية : من ربك وما دينك ومن نبيك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل ، فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، قال : فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا إبراهيم بن موسى القراء أبو إسحاق حدثنا هشام ابن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى عن هانئ مولى عثمان قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " . وقال عمر بن العاص في سياق الموت وهو يبكي : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي . قوله تعالى : { ويضل الله الظالمين } أي : لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر { ويفعل الله ما يشاء } ، من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت .
وفي ظل الشجرة الثابتة ، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه ، فيرسمها : أصلها ثابت مستقر في الأرض ، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر ، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات .
في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) . . وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات : ( ويضل الله الظالمين ) . . فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق !
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر ، الثابتة في الفطر ، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة . ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول ؛ وبوعده للحق بالنصر في الدنيا ، والفوز في الآخرة . . وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة ، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل ، ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب .
ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم [ والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب ] وبعدهم عن النور الهادي ، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله . . يضلهم وفق سنته التي تنتهي . بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود .
بإرادته المطلقة ، التي تختار الناموس ، فلا تتقيد به ولكنها ترضاه . حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة ، ولا يقوم في طريقها عائق ؛ والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء .
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات . وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء ، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات ، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة ، تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى . . حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل ، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير ، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار .
{ القول الثابت في الحياة الدنيا } ، كلمة الإخلاص والنجاة من النار : لا إله إلا الله ، والإقرار بالنبوة .
وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ، وقال طاوس وقتادة وجمهور العلماء : { الحياة الدنيا } هي مدة حياة الإنسان . { وفي الآخرة } هي وقت سؤاله في قبره . وقال البراء بن عازب وجماعة { في الحياة الدنيا } هي وقت سؤاله في قبره -ورواه البراء عن النبي عليه السلام في لفظ متأول{[7073]} .
قال القاضي أبو محمد : ووجه القول لأن ذلك في مدة وجود الدنيا .
وقوله { في الآخرة } هو يوم القيامة عند العرض .
قال القاضي أبو محمد : والأول أحسن ، ورجحه الطبري .
و { الظالمين } في هذه الآية ، الكافرين ، بدليل أنه عادل بهم المؤمنين ، وعادل التثبيت بالإضلال ، وقوله : { ويفعل الله ما يشاء } تقرير لهذا التقسيم المتقدم ، كأن امرأً رأى التقسيم فطلب في نفسه علته ، فقيل له : { ويفعل الله ما يشاء } بحق الملك .
وفي هذه الآية رد على القدرية .
وذكر الطبري في صفة مساءلة العبد في قبره أحاديث ، منها ما وقع في الصحيح . وهي من عقائد الدين ، وأنكرت ذلك المعتزلة . ولم تقل بأن العبد يسأل في قبره ، وجماعة السنة تقول : إن الله يخلق له في قبره إدراكات وتحصيلاً ، إما بحياة كالمتعارفة ، وإما بحضور النفس وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف ، كل هذا جائز في قدرة الله تعالى ، غير أن في الأحاديث : «إنه يسمع خفق النعال » ، ومنها : «إنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب » ، وفيها : «إنه ليراجع » ، وفيها : «فيعاد روحه إلى جسده » ، وهذا كله يتضمن الحياة - فسبحان رب هذه القدرة .
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به : ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت .
والقول : الكلام . والثابت الصادق الذي لا شك فيه . والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل ، فالتعريف في { القول } لاستغراق الأقوال الثابتة . والباء في { بالقول } للسببية .
ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين .
وذلك في الحياة الدنيا ظاهر ، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا ، فلم تعترهم ندامة ولا لهف . ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولاً وانسياقاً ، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها .
وتفسير ذلك بمقابلته بقوله : { ويضل الله الظالمين } ، أي المشركين ، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة . والضلال : اضطراب وارتباك ، فهو الأثر المناسب لسببه ، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة .
والظالمون : المشركون ، قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ سورة لقمان : 13 ] .
ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر . روى البخاري والترمذي عن البَرَاء بن عازب أن رسول الله قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
وجملة { ويفعل الله ما يشاء } كالتذليل لما قبلها . وتحت إبهام { ما يشاء } وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس ، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد ، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال . وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها .
وإظهار اسم الجلالة في { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل .