قوله تعالى : { فتقبلها ربها بقبول حسن } أي قبل الله مريم من حنة مكان المحرر ، وتقبل بمعنى قبل ورضي ، والقبول مصدر قبل يقبل قبولاً ، مثل الولوغ والوزوع ، ولم يأت غير هذه الثلاثة ، وقيل : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها .
قوله تعالى : { وأنبتها نباتاً حسناً } معناه : وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً ، وقيل : هذا مصدر على غير الصدر أي المصدر ، وكذلك قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) ومثله سائغ ، كقولك تكلمت كلاماً ، وقال جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) أي سلك بها طريق السعداء ( وأنبتها نباتاً حسناً ) يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام .
قوله تعالى : { وكفلها زكريا } . قال أهل الأخبار :أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، عندي خالتها ، فقالت له الأحبار : لا نفعل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس لتركت لأمها التي ولدتها ، لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جار . قال السدي : هو نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بها وقيل : كان على كل قلم اسم واحد منهم . وقيل : كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء فارتد قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر ، قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل جرى قلم زكريا مصعداً إلى أعلى الماء ، وجرت أقلامهم بجري الماء ، وقال السدى وجماعة : بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامهم في جرية الماء ، فسهمهم وقرعهم زكريا ، وكان رأس الأحبار ونبيهم ، فذلك قوله تعالى : ( وكفلها زكريا ) . قرأ حمزة وعاصم والكسائي " كفلها " بتشديد الفاء ، فيكون زكريا في محل النصب ، أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة ، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع ، أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها ، وهو زكريا بن أذن بن مسلم ، بن صدوق ، من أولاد سليمان ، بن داود عليهما السلام ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " زكريا " مقصوراً والآخرون يمدونه ، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتاً واسترضع لها ، وقال محمد بن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم ، مثل باب الكعبة ، لا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم .
قوله تعالى : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } . وأراد بالمحراب الغرفة ، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، ويقال للمسجد أيضاً محراب ، قال المبرد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة ، وقال الربيع ابن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها فتحها .
قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً }أي فاكهة في غير حينها ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف .
قوله تعالى : { قال يا مريم أنى لك هذا } قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ؟ وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؟ لأن " آنى " للسؤال عن الجهة " وأين " لسؤال عن المكان .
قوله تعالى : { قالت هو من عند الله } أي من قطف الجنة ، وقال أبو الحسن : إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثدياً قط ، كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول لها زكريا : أنى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند الله ، تكلمت وهي صغيرة .
قوله تعالى : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . وقال محمد بن إسحاق : ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني ، وضعفت عن حمل مريم بنت عمران ، فأيكم يكفلها بعدي ؟ قالوا : والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى ، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بداً فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له : يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فقالت له : يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا ، فجعل يوسف يزرق بمكانها منه فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها ، فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به يوسف ، فيقول : ( يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) .
قال أهل الأخبار : فلما رأى ذلك زكريا قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ، ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر ، فطمع في الولد ، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد .
( فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ) . .
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح ، وكلمة الله ، وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .
أي جعل كفالتها له ، وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .
ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته :
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها : كيف ومن أين هذا كله ؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله ، وتفويض الأمر إليه كله :
و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه ، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر ، لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .
وقوله تعالى : { فتقبلها } إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها ، ولذلك جعلوها كما نذرت ، وقوله { بقبول } مصدر جاء على غير الصدر ، وكذلك قوله { نباتاً } بعد أنبت ، وقوله { وأنبتها نباتاً حسناً } ، عبارة عن حسن وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق ، وقوله تعالى : { وكفلها زكريا } معناه : ضمها إلى إنفاقه وحضنه ، والكافل هو المربي الحاضن ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم ، وقال السدي وغيره : إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران ، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة{[3116]} ، قال مكي : وهو زكريا بن آذن ، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم : أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه ، وأنهم فعلوا في مريم ذلك ، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر ، وقيل أقلاماً بروها من عود كالسهام والقداح ، وقيل عصياً لهم ، وهذه كلها تقلم ، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن ، وروي أنهم ألقوه في عين{[3117]} ، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية{[3118]} ، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته ، وروي أن أقلام القوم عامت على الماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتزا{[3119]} واقفاً كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام . وحكى الطبري عن ابن إسحاق ، أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء : إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق .
قال أبو محمد : وهذا الاستهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها ، والأول المراد منه أخذها ، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام ، لكن{[3120]} لأن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته ، وهكذا قال ابن إسحاق ، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر{[3121]} { وكفلها زكرياء } مفتوحة الفاء ، خفيفة «زكرياء » مرفوعاً ممدوداً ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ، وكفلها مشددة الفاء ممدوداً منصوباً في جميع القرآن ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ، «كفَّلها » مشددة الفاء مفتوحة ، «زكريا » مقصوراً في جميع القرآن ، وفي رواية أبي بن كعب ، و «أكفلها زكرياء » بفتح الفاء على التعدية بالهمزة ، وقرأ مجاهد ، «فتقبلْها » بسكون اللام على الدعاء «ربَّها » بنصب الباء على النداء و«أنِبتها » بكسر الباء على الدعاء ، و«كفِلها » بكسرالفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوباً ممدوداً ، وروي عن عبد الله بن كثير ، وأبي عبد الله المزني{[3122]} ، و «وكفِلها » بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال : كفل يكفُل بضم العين في المضارع ، وكفِل بكسر العين يكفَل بفتحها في المضارع ، «زكرياء » اسم أعجمي يمد ويقصر ، قال أبو علي : لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصر ، قال الزجاج : فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث ، قال أبو علي : ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق ، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه ، ولا يجوز أن تكون منقلبة ، ويقال في لغة زكرى منون معرب ، قال أبو علي : هاتان ياءا نسب ولو كانتا اللتين في { زكريا } لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب{[3123]} ، وحكى أبو حاتم ، زكرى بغير صرف وهو غلط عند النحاة ، ذكره مكي .
وقوله تعالى : { كلما } ظرف والعامل فيه { وجد } ، و { المحراب } المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه ، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب ، وقال الشاعر : [ وضاح اليمن ] [ السريع ]
رَبَّة مِحْرابٍ إذَا جئْتُهَا . . . لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أرتقي سُلَّما{[3124]}
ومثل قول الآخر : [ عدي بن زيد ] {[3125]} [ الخفيف ]
كَدُمَى العاجِ في المحاريبِ أَوْ كال . . . بيضِ في الرَّوضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
وقوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } ، معناه طعاماً تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها وكانت فيما ذكر الربيع ، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها ، بسلم ، وقال ابن عباس : وجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه ، وقاله ابن جبير ومجاهد ، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً وقتادة : كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، وقال ابن عباس : كان يجد عندها ثمار الجنة : فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وقال الحسن : كان يجد عندها رزقاً من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه ، وقال ابن إسحاق : هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله { كلما دخل عليها } إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج أخيراً ، وذلك أن جريجاً كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره ، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال : { يا مريم أنّى لك هذا } والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق ، وقوله { أنى } معناه كيف ومن أين{[3126]} ؟ وقولها : { هو من عند الله } ، دليل على أنه ليس من جلب بشر ، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب ، قال الزجاج : وهذا من الآية التي قال تعالى :
{ وجعلناها وابنها آية للعالمين }{[3127]} وروي أنها لم تلقم ثدياً قط ، وقولها : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله ، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والله تعالى لا تنتقص خزائنه ، فليس يحسب ما يخرج منها ، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب ، وذلك مجاز وتشبيه ، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى .
{ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا }
تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، وضمائر النصب لمريم . ومعنى تقبلها : تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس ، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى ، ولم يكن ذلك مشروعاً من قبل .
وقوله : { بقبول حسن } الباء فيه للتأكيد ، وأصل نظم الكلام : فتقبّلها قبولاً حسناً ، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلَة للتقبل فكأنه شيء ثانٍ ، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول ، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك ، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم ، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد ، ولم يكن ذلك للنساء قبلها ، وكل هذا إرهاصٌ بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة ؛ لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة .
ومعنى : { وأنبتها نباتاً حسناً } : أنشأها إنشاء صالحاً ، وذلك في الخلق ونزاهة الباطن ، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغضّ على طريق الاستعارة ، ( ونبات ) مفعول مطلق لأنبَت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف .
عُدَّ هذا في فضائل مريم ، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأنّ أبا التربية يكسب خلقه وصلاحه مُربّاه .
وزكرياء كاهن إسرائيلي اسمه زكرياء من بني أَبِيَّا بن باكر بن بنيامين من كَهَنة اليهود ، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكرياء من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجاً امرأةً من ذرية هارون اسمها ( اليصابات ) وكانت امرأته نسيبَة مريم كما في إنجيل لوقا قيل : كانت أختها والصحيح أنّها كانت خالتها ، أو من قرابة أمها ، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحْبار بني إسرائيل حرصاً . على كفالة بنت حبرهم الكبير ، واقترعوا على ذلك كما يأتي ، فطارت القرعة لزكرياء ، والظاهر أنّ جعل كفالتها للأحبار لأنّها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربّى تربيَةً صالحة لذلك .
وقرأ الجمهور : { وكَفَلها زكرياءُ } بتخفيف الفاء من كفَلها أي تولَّى كفالتها ، وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : وكَفّلها بتشديد الفاء أي أنّ الله جعل زكرياء كافلاً لها ، وقرأ الجمهور زكرياء بهمزة في آخره ، ممدوداً وبرفع الهمزة . وقرأه حمزة ، والكسائي وحفص عن عاصم ، وخلفٌ : بالقصر ، وقرأه أبو بكر عن عاصم : بالهمز في آخره ونصب الهمزة .
{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
دل قوله : { كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقاً } على كلام محذوف ، أي فكانت مريم ملازِمة لخدمة بيت المقدس ، وكانت تتعبد بمكان تتخذه بها مِحراباً ، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامةً لها أنّ عندها ثِماراً في غير وقت وجود صنفها .
و { كلّما } مركّبة من ( كُلَ ) الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه ، ومن ( مَا ) الظرفية وصلتِها المقدّرةِ بالمصدر ، والتّقدير : كلّ وقتِ دُخولِ زَكرياء عليها وجد عندها رزقاً .
وانتصب كل على النيابة عن المفعول فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } في سورة [ البقرة : 25 ] .
فجملة وجد عندها رزقاً حال من زكرياء في قوله { وكفَلها زكرياء } [ آل عمران : 36 ] .
ولك أن تجعل جملة { وجد عندها رزقاً } بدلَ اشتمال من جملة { وكفّلها زكريّاء } .
والمحراب بناء يتّخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته ، وأكثر ما يتخذ في علوّ يرتقي إليه بسلّم أو درج ، وهو غير المسجد . وأطلق على غير ذلك إطلاقات ، على وجه التشبيه أو التوسّع كقول عمر بن أبي ربيعة :
دمْيةٌ عند راهب قسيس *** صوّرُوها في مذبح المحراب
أراد في مذبح البيعةِ ، لأنّ المحراب لا يجعل فيه مذبح . وقد قيل : إنّ المحراب مشتق من الحَرْب لأن المتعبّد كأنّه يحارب الشيطان فيه ، فكأنّهم جعلوا ذلك المكان آلة لمِحرَب الشيطان .
ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبّة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة . وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك ، مدةَ إمارة عُمَر بن عبد العزيز على المدينة . والتعريف في { المحراب } تعريف الجنس ويعلم أنّ المراد محراب جعلته مريم للتعبّد .
و ( أنّى ) استفهام عن المكان ، أي من أين لك هذا ، فلذلك كان جواب استفهامه قوله : { من عند الله } .
واستفهام زكرياءَ مريمَ عن الرزق لأنه في غير إبَّانِه ووقتِ أمثاله . قيل : كان عِنباً في فصل الشتاء . والرزق تقدم آنفاً عند قوله : { يرزق من يشاء بغير حساب } .
وجملة { إنّ الله يرزق من يشاء } من كلام مريم المحكي .
والحساب في قوله : { بغير حساب } بمعنى الحصر لأنّ الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص ، فالمعنى إنّ الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله .