غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

م35

فأرادت بقولها ذلك التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، ولهذا أردف ذلك بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان { فتقبلها ربها } الضمير يعود إلى امرأة عمران ظاهراً بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها { رب إني وضعتها } ويحتمل أن يعود إلى مريم فيكون فيه إشارة إلى أنه كما رباها في بطن أمها فسيربيها بعد ذلك { بقبول حسن } تقبلت الشيء وقبلته إذا رضيته لنفسك . قبولاً بفتح القاف وهو مصدر شاذ حتى حكي أنه لم يسمع غيره . وأجاز الفراء والزجاج قبولاً بالضم . والباء في قوله { بقبول } بمنزلة الباء في قولك " كتب بالقلم وضربته بالسوط " . وفي التقبل نوع تكلف فكأنه إنما حكم بالتقبل بواسطة القبول الحسن . قال في الكشاف : معناه فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول وهو اختصاصها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى في النذر ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة . قال : ويجوز أن يكون القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلدّ وهو الاختصاص ، ويجوز أن يكون معناه فاستقبلها مثل تعجل بمعنى استعجل وذلك من قولهم " استقبل الأمر " إذا أخذه بأوله أي فأخذها من أول أمرها حين ولدت بقبول حسن . { وأنبتها نباتاً حسناً } قيل : كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام . وقيل : المراد نماؤها في الطاعة والعفة والصلاح والسداد

{ وكفلها زكريا } روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة . فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم . فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فقالوا : لا حتى نقترع عليها . فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة والوحي ، على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح . فألقوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريا . فعلى هذه الرواية تكون كفالة زكريا إياها من أول أمرها وهو قول الأكثرين . وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن على ترتيب الذكور . والأرجح أنها لم ترضع ثدياً قط ، وكانت تتكلم في الصغر ، وكان رزقها من الجنة ، وأن زكريا بنى لها محراباً وهي غرفة يصعد إليها بسلم . وقيل : هو أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس .

وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب . والتركيب يدل على الطلب فكان صدر المجلس يسمى محراباً لطلب الناس إياه . وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، وذلك قوله عز من قائل { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه والأبواب مغلقة ؟ قالت { هو من عند الله } فلا تستبعد { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم ، وأن يكون معترضاً من كلام الله تعالى . واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها : أنه روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " قلت : وذلك لدعاء حنة { وإني أعيذها } ومنه تكلمها في الصغر . ومنها حصول الرزق لها من عند الله كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدّت له صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع صلى الله عليه وسلم بها إليها وقال : هلمي يا بنية . فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها : أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . فقال صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل . ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها " وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء . والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة ، وفي الثاني يدعي الولاية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به ، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة بخلافها . وقال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة ، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات ، بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم . وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخاً من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه .

فمعنى الحديث أن كل مولود فإنه يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها . وهذا المعنى يعم جميع من كان في صفتهما من عباد الله المخلصين . قال في الكشاف : وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلون به من نخسه . قلت : وعجيب من مثله مثل هذا الكلام فإنه لا يلزم من الإحساس بمس الشيطان والصراخ منه في وقت الولادة وإنه قريب العهد بعالم الأرواح وبزمان المكاشفة بعيد العهد من عالم الغفلة والإلف بالمحسوسات أن يحس به في وقت آخر ويصرخ على أن أثر مس الشيطان ونخسه يظهر في هيئات النفس وأحوالها ، وأنها أمور لا يحس بها إلا بعد المفارقة أو قطع العلائق البدنية ، والكلام فيه يستدعي فهمه استعداداً آخر غير العلوم الظاهرية . قال الجبائي : لم لا يجوز أن تكون تلك الخوارق من معجزات زكريا ؟ وبيانه أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله . فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها : أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله لا من عند غيره . فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة . ويحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً لأنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون من عند إنسان يبعثه إليها فقالت : هو من عند الله ، لا من عند غيره . على أنا لا نسلم أنه قد ظهر لها شيء من الخوارق ، بل كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات . فكان زكريا إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أن ذلك الرزق أتاها من حيث لا ينبغي ، وكان يسألها عن كيفية الحال . قلت : أمثال هذه الشبهات يوجبها الشك في القرآن وفي الحديث أو العصبية المحضة . على أنا نقول : لو كان معجزاً لزكريا لكان مأذوناً من عند الله في طلبه فكان عالماً بحصوله ، وإذا علم امتنع أن يطلب كيفية الحال . وأيضاً كيف قنع بمجرد إخبارها في زوال الشبهة ؟ وكيف مدح الله تعالى مريم بحصول هذا الرزق عندها ؟ وكيف يستبعد هذا القدر ممن أخبر الله تعالى بأنه اصطفاها على نساء العالمين وقال :{ وجعلناها وابنها آية للعالمين }[ الأنبياء : 91 ] .

/خ41