الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

وقوله تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ }[ آل عمران :7 ] .

إخبار منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد ، كما نذَرَتْ أُمُّهَا ، وسنّى لها الأمَلَ في ذلك .

وقوله سبحانه : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ .

( ص ) { بِقَبُولٍ } مصدر على غير الصَّدْرِ ، والجاري على تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً ، وعلى قَبِلَ قَبُولاً ، و{ نَبَاتاً } : مصدرٌ منصوبٌ بأَنْبَتَهَا ، على غير الصَّدْر ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } معناه : ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ ، والكَافِلُ : هو المربِّي ، قال السُّدِّيُّ ، وغيره : إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها ، وَيَعْضُدُ هذا القوْلَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى : ( ابنا الخَالَةِ ) والذي عليه النَّاس : أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ ، لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر .

وقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } المِحْرَابُ : المَبْنَى الحَسَنُ ، ومِحْرَابُ القَصْر : أشرف ما فيه ، ولذلك قيل لأَشْرَفِ مَا في المصلى ، وهو موقِفُ الإِمامِ : مِحْرَاب ، ومعنى { رِزْقاً } أيْ : طعاماً يتغذَّى به ، لم يَعْهَدْهُ ، ولا عَرفَ كيف جُلِبَ إليها ، قال مجاهد وغيره : كان يجدُ عندها فاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ ، وفاكهةَ الصَّيْفِ في الشتاءِ ، ونحوه عن ابن عَبَّاس إِلاَّ أنه قال : ثِمَار الجَنَّة ، وقوله : { أنى } معناه : كَيْفَ ؟ ومِنْ أَيْنَ ؟ وقولها : { مِنْ عِندِ الله } دليلٌ على أنه ليس مِنْ جَلْب بَشَرٍ ، قال الزَّجَّاج : وهذا من الآية الَّتي قال اللَّه تعالى : { وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] وقولها : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقرير لكون ذلك الرزْقِ من عند اللَّه ، وذهب الطَّبَرِيُّ إِلى أنَّ ذلك ليس من قولِ مرْيَمَ ، وأنَّه خبر من اللَّه تعالى لمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، واللَّه سبحانه لا تنتقصُ خزائنه ، فليس يَحْسُبُ ما خرج منها ، وقد يُعَبَّر بهذه العبارة عن المُكْثِرِينَ مِنَ النَّاسِ ، أنهم ينفقون بغَيْرِ حِسَابٍ ، وذلك مجازٌ وتشبيهٌ ، والحقيقةُ هي فيما ينتفقُ من خزائنِ اللَّه سبحانه .

قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرَةَ ( رضي اللَّه عنه ) وقد قال العلماءُ في معنى قوله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } إِنه الفتوحُ ، إِذا كان على وجهه اه ، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَوْ دُعِيْتُ إلى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ ، لأَجَبْتُ ) .