ولما أخبر بدعائها{[16466]} أخبر بإجابتها فيه فقال : { فتقبلها } فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها { فتقبل } ، ففيه إشعار بتدرج{[16467]} وتطور وتكثر ، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور تتطور{[16468]} إليه ، من حيث لم يكن فاقبل مني {[16469]}فلم تكن{[16470]} إجابته { فقبلها{[16471]} } ، فيكون إعطاء واحداً منقطعاً عن التواصل والتتابع ، فلا تزال بركة {[16472]}تحريرها متجدداً{[16473]} لها في نفسها وعائداً{[16474]} بركته على أمها حتى تترقى إلى العلو المحمدي فتكون في أزواجه ومن يتصل به - انتهى .
وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال : { ربها } قال الحرالي : وظهر سر{[16475]} الإجابة في قوله سبحانه وتعالى : { بقبول حسن } حيث لم يكن{[16476]} " بتقبل{[16477]} " - جرياً على الأول .
ولما أنبأ{[16478]} القبول{[16479]} عن معنى ما{[16480]} أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها ، وفي{[16481]} ذكر الفعل من " أفعل " في قوله : { وأنبتها } والاسم من " فعل " في قوله : { نباتاً حسناً } إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين ، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر{[16482]} ، فأعرب عن إنباتها{[16483]} ونباتها{[16484]} معنى حسناً - انتهى . فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه ، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها ، وكفر وإلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما{[16485]} ادعى .
وقال الحرالي : وقد أنبأ{[16486]} سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة{[16487]} بقصة مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفى اللبس في أمرها وأمر ولدها ، لأن المخصوص بمنزل{[16488]} هذه السورة ما{[16489]} هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى ، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص{[16490]} منزلها ، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها ، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قصص الأنبياء وما ذكر فيه{[16491]} لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى ، وفيه تصرف .
ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت{[16492]} به العادة{[16493]} من كبير يتولى أمره قال : { وكفلها } قال الحرالي : من الكفل وهو {[16494]}حياطة{[16495]} الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر { زكريا } وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها{[16496]} بما هو تقبلها{[16497]} ، وفيه استخلاص لزكريا{[16498]} من حيث جعله {[16499]}يد وكالة{[16500]} له فيها - انتهى .
ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن{[16501]} تلك الكفالة إنما كانت جرياً على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها{[16502]} عن{[16503]} سواه فقال في جواب من لعله يقول : ما فعل في كفالتها ؟ : { كلما } أي كان كلما { دخل عليها زكريا المحراب } أي موضع العبادة . وقال الحرالي : هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب { وجد عندها رزقاً } وذلك كما وجد عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف{[16504]} العنب - كما سيأتي في آخر المائدة ، ومثل ذلك كثير في هذه الأمة ، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده{[16505]} كلمة { كلما } من التكرار ، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها{[16506]} برزق من غيب{[16507]} بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته ، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها{[16508]} الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات{[16509]} الأرزاق ، فكان من حفظها أن تولى{[16510]} الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد ، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال : من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم {[16511]}ومن غذي بقلوبهم{[16512]} آل إلى منقلبهم{[16513]} ، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كفلته باطناً حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بداً له ، {[16514]}فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء{[16515]} ليكون حملها بالكلمة ، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبّانه{[16516]} كما رزق مريم الرزق في غير أوانه ، وفي تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطناً من حيث {[16517]}إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى{[16518]} الله سبحانه وتعالى في محلها{[16519]} ذكر المحراب إشارة بكمالها ، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة ، وفي لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس{[16520]} والمعتكف بيته محرابه ومحرابه{[16521]} بيته ، بخلاف {[16522]}من له{[16523]} متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله ، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه ، فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم ، ففيه إشعار بحضورها ، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم ، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه ، فأهل الله سواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم ، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه ، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه ، وفي ذكر الرزق شائعاً إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم - انتهى .
{[16524]}ولما كان كأنه قيل : فما كان يقول لها إذا رأى ذلك ؟ قيل : كان كلما{[16525]} وجد ذلك ، أو : لما تكرر وجدانه لذلك{[16526]} { قال يا مريم أنّى } أي من أين { لك هذا } قال الحرالي : كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود{[16527]} ذلك الرزق من وجوه مختلفة : من جهة الزمان أنه ليس زمانه ، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه ، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله ، وفي ذكر الضمير في قوله : { قالت هو{[16528]} من عند الله{[16529]} } إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه ، فهو إنباء عن رؤية قلب ، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد{[16530]} مضمره ، ولما لم يكن {[16531]}من معهود ما أظهرته{[16532]} حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت { من عند الله } ذي الجلال والإكرام ، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده ، وما كان مستغرباً{[16533]} فيما هو من عنده فهو من لدنه ، فهي{[16534]} ثلاث رتب : رتبة لدنية{[16535]} ، ورتبة عندية ، ورتبة حكمية عادية ؛ فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى : آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً{[16536]} }[ الكهف : 65 ] حيث كان مستغرباً{[16537]} عند أهل الخصوص كما قال :{ أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً{[16538]} }[ الكهف : 71 ] والإمر العجب ، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ{[16539]} عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن { من عند ربي } لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال
{ هذا من فضل ربي{[16540]} }[ النمل : 40 ] لما كان من عادته المكنة{[16541]} على الملوك ، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود{[16542]} الأركان الأربعة - انتهى .
ولما أخبرت بخرقه{[16543]} سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا : { إن الله } أي الذي له الإحاطة الكلية . {[16544]}قال الحرالي : في تجديد{[16545]} الاسم العظيم في النبأ{[16546]} إشعار باتساع النبأ{[16547]} وإيذان وإلاحة بأن{[16548]} ذلك يكون لك{[16549]} ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله ، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحاً لاختصاص ما بها ، ويؤيده عموم قولها : { يرزق من يشاء } وقولها : { بغير حساب * } يشعر بأنه عطاء متصل ، فلا يتحدد ولا يتعدد ، فهو رزق{[16550]} لا متعقب عليه ، لأن كل محسوب في الإبداء محاسب عليه في الإعادة ، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى{[16551]} برفع الحساب عنهم{[16552]} في المعاد{[16553]} وكفالة بالشكر عنه ، لأن أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى ، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى - انتهى .