مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال : { فتقبلها ربها بقبول } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : إنما قال { فتقبلها ربها بقبول حسن } ولم يقل : فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتا } [ نوح : 17 ] أي إنباتا ، والقبول مصدر قولهم : قبل فلان الشيء قبولا إذا رضيه ، قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على فعول : قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم ، وأجاز الفراء والزجاج : قبولا بالضم ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال : قبلته قبولا وقبولا ، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة ، فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول .

فإن قيل : فلم لم يقل : فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل ؟

والجواب : أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع ، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع ، بل على وفق الطبع ، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى ، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها ، وهذا الوجه مناسب معقول .

المسألة الثانية : ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوها :

الوجه الأول : أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها » ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان } طعن القاضي في هذا الخبر وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده ، وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني : أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث : لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع : أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره ، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه ، واعلم أن هذه الوجوه محتملة ، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم .

الوجه الثاني : في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن ، ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، وقالت : خذوا هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها ، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح ، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا .

الوجه الثالث : روى القفال عن الحسن أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثديا قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة .

الوجه الرابع : في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلا قادرا على خدمة المسجد ، وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد ، فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن .

ثم قال الله تعالى : { وأنبتها نباتا حسنا } قال ابن الأنباري : التقدير أنبتها فنبتت هي نباتا حسنا ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا ، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين ، أما الأول فقالوا : المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد ، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة .

ثم قال الله تعالى : { وكفلها زكريا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : يقال : كفل يكفل كفالة وكفلا فهو كافل ، وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه ، وفي الحديث « أنا وكافل اليتيم كهاتين » وقال الله تعالى : { أكفلنيها } .

المسألة الثانية : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( وكفلها ) بالتشديد ، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد ، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا ، فمن قرأ ( زكرياء ) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه ، وهو الاختيار ، لأن هذا مناسب لقوله تعالى : { أيهم يكفل مريم } وعليه الأكثر ، وعن ابن كثير في رواية { كفلها } بكسر الفاء ، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان ، كالهيجاء والهيجا ، وقرأ مجاهد { فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها } على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ، ونصب { ربها } كأنها كانت تدعو الله فقالت : اقبلها يا ربها ، وأنبتها يا ربها ، واجعل زكريا كافلا لها .

المسألة الثالثة : اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفوليتها ، وبه جاءت الروايات ، وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن فطمت ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال : { وأنبتها نباتا حسنا } ثم قال : { وكفلها زكريا } وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني : أنه تعالى قال : { وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة ، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معا .

وأما الحجة الثانية : فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة .

ثم قال الله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : { المحراب } الموضع العالي الشريف ، قال عمر بن أبي ربيعة :

ربة محراب إذا جئتها *** لم أدن حتى أرتقي سلما

واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إذ تسوروا المحراب } [ ص : 21 ] والتسور لا يكون إلا من علو ، وقيل : المحراب أشرف المجالس وأرفعها ، يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية ، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم : أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله ، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقا للعادة ، أو لا يكون ، فإن قلنا : إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول : أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلا على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية { هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } والقرآن دل على أنه كان آيسا من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله { هنالك دعا زكريا ربه } أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقا للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث : أن التنكر في قوله { وجد عندها رزقا } يدل على تعظيم حال ذلك الرزق ، كأنه قيل : رزقا . أي رزق غريب عجيب ، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقا للعادة الرابع : هو أنه تعالى قال : { وجعلناها وابنها ءاية للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق ، وإلا لم يصح ذلك .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولدا من غير ذكر ؟

قلنا : ليس هذا بآية ، بل يحتاج تصحيحه إلى آية ، فكيف نحمل الآية على ذلك ، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها ، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس : ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلا خارقا للعادة ، فنقول : إما أن يقال : إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام ، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالما بحاله وشأنه ، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم { أنى لك هذا } وأيضا فقوله تعالى : { هنالك دعا زكريا ربه } مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال : إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام ، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء .

اعترض أبو علي الجبائي وقال : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام ، وبيانه من وجهين الأول : أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقا ، وأنه ربما كان غافلا عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى ، فإذا رأى شيئا بعينه في وقت معين قال لها { أنى لك هذا قالت هو من عند الله } فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني : يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقا معتادا إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذرا من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت هو من عند الله لا من عند غيره .

المقام الثاني : أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات ، بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقا على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات ، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئا من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال ، هذا مجموع ما قاله الجبائي في «تفسيره » وهو في غاية الضعف ، لأنه لو كان ذلك معجزا لزكريا عليه السلام كان مأذونا له من عند الله تعالى في طلب ذلك ، ومتى كان مأذونا في ذلك الطلب كان عالما قطعا بأن يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يبق أيضا لقوله { هنالك دعا زكريا ربه } فائدة ، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني .

وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة ، وأيضا فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق .

أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوة لا يوجد مع غير الأنبياء ، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم .

والجواب من وجوه الأول : وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي ، فإن ادعى صاحبه النبوة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيا ، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه وليا والثاني : قال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث : وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق .

ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم ، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى ، وقوله { بغير حساب } أي بغير تقدير لكثرته ، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها ، وهذا كقوله { ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 3 ] وههنا آخر الكلام في قصة حنة .