فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي : رضي بها في النذر ، وسلك بها مسلك السعداء . وقال قوم : معنى التقبل التكفل ، والتربية ، والقيام بشأنها ، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق ، والباء زائدة ، والأصل تقبلاً ، وكذلك قوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } وأصله إنباتاً ، فحذف الحرف الزائد ، وقيل : هو مصدر لفعل محذوف ، أي : فنبتت نباتاً حسناً . والمعنى أنه سوّى خلقها من غير زيادة ، ولا نقصان ، قيل : إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ، وقيل : هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها ، قوله : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها . وقرأ الكوفيون : { وَكَفَّلَهَا } بالتشديد ، أي : جعله الله كافلاً لها ، وملتزماً بمصالحها ، وفي معناه ما في مصحف أبيّ ، " وأكفلها " ، وقرأ الباقون بالتخفيف على إسناد الفعل إلى زكريا ، ومعناه ما تقدّم من كونه ضمها إليه ، وضمن القيام بها . وروى عمرو بن موسى ، عن عبد الله بن كثير ، وأبي عبد الله المزني ، " وكفلها " بكسر الفاء . قال الأخفش : لم أسمع كفل . وقرأ مجاهد : «فتقبلها » بإسكان اللام على المسألة ، والطلب ، ونصب " ربَّها " على أنه منادى مضاف . وقرأ أيضاً : «وأنبتها » بإسكان التاء «وكفلها » بتشديد الفاء المكسورة ، وإسكان اللام ، ونصب «زكريا » مع المدّ . وقرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي : «زكريا » بغير مد ، ومده الباقون ، وقال الفراء : أهل الحجاز يمدون { زكريا } ، ويقصرونه . قال الأخفش : فيه لغات المد ، والقصر ، و " زكريّ " بتشديد الياء ، وهو ممتنع على جميع التقادير للعجمة ، والتعريف مع ألف التأنيث . قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } قدّم الظرف للاهتمام به ، وكلمة كل ظرف ، والزمان محذوف ، و " ما " مصدرية ، أو نكرة موصوفة ، والعامل في ذلك قوله : { وَجَدَ } أي : كل زمان دخوله عليها ، وجد عندها رزقاً ، أي : نوعاً من أنواع الرزق . والمحراب في اللغة : أكرم موضع في المجلس قاله القرطبي ، وهو : منصوب على التوسع ، قيل : إن زكريا جعل لها محراباً لا يرتقي إليه إلا بسلم ، وكان يطلق عليها حتى كبرت ، وكان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فقال : { يا مريم أنى لَكِ هذا } أي : من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } فليس ذلك بعجيب ، ولا مستنكر ، وجملة قوله : { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } تعليلية لما قبلها ، وهو من تمام كلامها ، ومن قال إنه من كلام زكريا ، فتكون الجملة مستأنفة .

/خ37