مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل : القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة . روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي أختها . فقالوا : لا حتى نقترع عليها . فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها . وقيل : هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } مجاز عن التربية الحسنة ، قال ابن عطاء : ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات . «ونباتاً » مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً { وَكَفَّلَهَا } «وكفلها » : قبلها أو ضمن القيام بأمرها . وكفّلها : كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها { زَكَرِيَّا } بالقصر : كوفي غير أبي بكر في كل القرآن . وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا . غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري : دائم الذكر والتسبيح { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } قيل : بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم .

وقيل : المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس . وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه ؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا تستبعد . قيل : تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل .