قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } . أي بساطاً ، وقيل مناماً وقيل وطاء ، أي ذللها ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها ، والجعل هاهنا بمعنى الخلق .
قوله تعالى : { والسماء بناء } . وسقفاً مرفوعاً .
قوله تعالى : { وأنزل من السماء } . أي من السحاب .
قوله تعالى : { ماء } . وهو المطر .
قوله تعالى : { فأخرج به من الثمرات } . من ألوان الثمرات وأنواع النبات .
قوله تعالى : { رزقاً لكم } . طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم .
قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً } . أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله . وقال أبو عبيدة : الند الضد ، وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد .
( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) . .
وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض ، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش . . والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه . ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش ، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع . ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة . ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة . ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة !
فيها متانة البناء وتنسيق البناء . والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض ، وبسهولة هذه الحياة . وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها ، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها . فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق ، وفضل الرازق ، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق .
( وأنزل من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) . .
وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله ، والتذكير بنعمته كذلك . . والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) . . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض ، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة ، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية ، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا ، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى .
وقصة الماء في الأرض ، ودوره في حياة الناس ، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها . . كل هذا أمر لا يقبل المماحكة ، فتكفي الإشارة إليه ، والتذكير به ، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب .
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي : وحدة الخالق لكل الخلائق ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ) . . ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) . . فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان ، وسماؤه مبنية بنظام ، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس . . والفضل في هذا كله للخالق الواحد :
( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم . وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء . وأنه لم يكن له شريك يساعد ، ولا ند يعارض . فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق !
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة ، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون . فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية . قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة ، وفي الخوف من غير الله في أي صورة . وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة . . عن ابن عباس قال : " الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي . ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ! وقول الرجل : لولا الله وفلان . . هذا كله به شرك " . . . وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله [ ص ] ما شاء الله وشئت . قال : " أجعلتني لله ندا ؟ " !
هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله . . فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة ، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة ! ! !
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
وقوله تعالى : { الذي جعل } نصب على إتباع( {[324]} ) الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع .
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب { تتقون } فضعيف .
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و { فراشاً } معناه تفترشونها( {[325]} ) وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و { السماء } قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات » ، وقيل هو جمع واحده «سماوة » ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء ، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء » ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »( {[326]} ) ، واللفظة من السمو وتصاريفه .
وقوله تعالى : { بناء } تشبيه بما يفهم( {[327]} ) ، كما قال تعالى : { والسماء بنيناها بأييد }( {[328]} ) [ الذاريات : 47 ] .
وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة » .
وقوله : { وأنزل من السماء } يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] .
إذا نزل السماء بأرض قوم . . . رعيناه وإن كانوا غضابا( {[329]} )
فتجوز أيضاً في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً ، وأصل { ماء } موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق( {[330]} ) ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزقه ، وواحد الأنداد ند( {[331]} ) ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما .
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر .
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية ؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين : فقوله على هذا : { وأنتم تعلمون }( {[332]} ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار( {[333]} ) ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له .
وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين » فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد( {[334]} ) . وهذه الآية تعطي( {[335]} ) أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره