المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )

وقوله تعالى : { الذي جعل } نصب على إتباع( {[324]} ) الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع .

وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب { تتقون } فضعيف .

وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و { فراشاً } معناه تفترشونها( {[325]} ) وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و { السماء } قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات » ، وقيل هو جمع واحده «سماوة » ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء ، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء » ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »( {[326]} ) ، واللفظة من السمو وتصاريفه .

وقوله تعالى : { بناء } تشبيه بما يفهم( {[327]} ) ، كما قال تعالى : { والسماء بنيناها بأييد }( {[328]} ) [ الذاريات : 47 ] .

وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة » .

وقوله : { وأنزل من السماء } يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] .

إذا نزل السماء بأرض قوم . . . رعيناه وإن كانوا غضابا( {[329]} )

فتجوز أيضاً في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً ، وأصل { ماء } موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق( {[330]} ) ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزقه ، وواحد الأنداد ند( {[331]} ) ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما .

وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر .

واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية ؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين : فقوله على هذا : { وأنتم تعلمون }( {[332]} ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار( {[333]} ) ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له .

وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين » فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد( {[334]} ) . وهذه الآية تعطي( {[335]} ) أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره


[324]:- الأوضح أنه نعت للرب.
[325]:- قال جار الله الزمخشري "إن قلت: هل في قوله تعالى: [الذي جعل لكم الأرض فراشا] دليل على أن الأرض مسطحة، وليست كروية؟ قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها، وسواء كانت على شكل السطح، أو شكل الكرة، فالافتراش غير مستنكر، ولا مدفوع، لعظم حجمها، واتساع جرمها، وتباعد أطرافها، والمراد أن كروية الشكل لا تمنع أن تكون فراشا لبني آدم، لأن ذلك باعتبار مجموعها، وهي في حد ذاتها واسعة الأطراف، وبعيدة الأكناف حتى كأنها مسطحة".
[326]:- زيادة (في السماء) لا توجد في الروايات المشهورة، والحديث رواه الشيخان، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[327]:- أي كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة، المتماسك بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مدارتها، فهي كالقبة المضروبة على الأرض. وقد جعل الله بين المقلة والمظلة علاقة ورابطة كرابطة النكاح، بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من ألوان الثمار وأصناف النبات، رزقا لبني آدم.
[328]:- من الآية 47 من سورة الذاريات.
[329]:- هذا البيت مشهور، يمثل به علماء البيان للاستخدام حيث أطلق السماء على المطر بقرينة النزول، ثم أعيد الضمير على السماء بمعنى العشب والنبات. والبيت لمعاوية بن مالك الملقب (بمعود الحكماء) يقول في هذه القصيدة: أعود مثلها الحكماء بعدي إذا ما الحق في الحدثان نابا ومعنى البيت الذي ذكره ابن عطية: إذا نزل المطر بأرض قوم فأخصبت وبقيت أرضنا جدباء، ذهبنا فرعينا أرضهم، وإن غضب أهلها لم نهتم بغضبهم لأننا أعزة وأقوياء.
[330]:- سبق أن قلنا إن الخلاف القائم بين أهل السنة والمعتزلة منشؤه: هل الرزق ما يصح الانتفاع به أو ما يصح تملكه؟ وهذه الآية ترد على المعتزلة من حيث أن الله سبحانه أطلق الرزق على ما ينتفع به في المستقبل قبل تملكه.
[331]:- روى ابن حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوة سوداء في ظلمة الليل- ومن الشرك أن تقول: لولا الله وفلان لوقع كذا- أو ما شاء الله وشاء فلان- أو والله وحياتك يا فلان، أخرج البخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: (جعلتني لله ندا، ما شاء الله وحده). وأخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك).
[332]:- وفي قوله تعالى: [وأنتم تعلمون] دليل على اعتبار العلم. واستعمال العقل، واجتناب التقليد الوتبعية.
[333]:- لأنها إنما أثبتت شيئا خاصا من العلم، وهو إنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، فلا ينافي قوله تعالى سابقا، (ولكن لا يعلمون)- (ولكن لا يشعرون).
[334]:- هذا أولى الأقوال وأحسنها، فالمراد بالناس في الآية كافة المكلفين من مؤمنين وكافرين، وطلب العبادة من المؤمنين طلب إدامتها والثبات عليها. وطلبها من الكافرين طلب إيجادها وابتدائها.
[335]:- قال الإمام (ق): ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى: (والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسال أحدا أعطاه أو منعه)، أخرجه الإمام مسلم، ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها- فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا- وقال علماء الصوفية: بين الله في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الأرض وطاء، والسماء غطاء، والماء طيبا، والكلأ طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه من غير منة فيه لأحد عليك اهـ، وليس المراد من قول الصوفية أن تترك العمل، بل أن تترك التعلق والتملق، ولو أدى بك الحال إلى أن تفترش الأرض، وتتغطى بالسماء.