التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

والله سبحانه أجدر أن يعبده الناس كافة ولا يعصوه في شيء لما أسبغه على الخلائق والبشر من نعماء ومنن ، فهو سبحانه قد ( جعل لكم الأرض فراشا ( أي مهدها ، ويسرها الممهد الذي يصلح للافتراش .

وكذلك قد جعل الله السماء للناس بناء كأنما هي مظلة ، وهي مظلة ممتدة وكبيرة وغير محدودة قد صيرها الله على هذه الصورة الهائلة من البناء المرفوع الذي تتكاثف فيه الخلائق والأجرام في غاية من التوازن الدقيق والإحكام المنظم المضبوط .

بناء سماوي رفيع لا تدرك منه الأبصار والعقول إلا قليلا مما تحقق بأسباب شتى من النظر والرصد والعلم ، وما في السماء من حقائق ومخبوءات لهو كثير لا يقف الإنسان إلا على جزء يسير منه كلما امتد به الزمان وتعاظمت له أسباب البحث والاكتشاف يقول سبحانه في ذلك : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ( والفعل جعل يأخذ مفعولين وهو يعني صير من الصيرورة ويأتي على معان أخرى ترد في موضعها .

وقوله : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ( السماء اسم مذكر ومؤنث وجمعه سماوات وأسمية ، وهو يطلق على كل ما علاك فأظلك ويقال لسقف البيت سماء ، وكذلك فإن السماء تسمى المطر فيقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، وأصل السماء من السمو وهو الارتقاء والعلو ، نقول سموت وسميت أي علوت وعليت ، ونقول فلان لا يسامى وقد علا من ساماه .

فقد أنزل الله المطر من السماء العالية المرتفعة بعد أن كان ( المطر ) حبات من الماء المنتشر المحمول عبر درات الهواء حتى إذا علا ذلك وتسامى فوق الأرض لامس أجواء باردة فتقاطر الماء من خلاله ليؤوب الى الأرض منهمرا تستقي منه الخلائق من بشر وزروع وأنعام ، ثم تنبت به الأرض من خيراتها وثمراتها بما يقتات به الناس ويرتزقون أو ما يستمتعون به ويستطيبون .

وحول هذه العملية الربانية العجيبة في إنزال المطر بدءا بتصريف الرياح الموقرة بحبات الماء المتبخر ، وانتهاء بالنزول الهاطل المنهمر يقول سبحانه : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمسلمين فانظر إلى ءاثر رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير ( .

قوله : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( الأنداد ، مفردها ند وهو يرادف النديد الذي يستعمل للمبالغة ، والأنداد بمعنى الأكفاء والنظراء والأمثال .

فالند أو النديد معناه الكفء أو النظير أو المثيل ، وقيل : الأنداد تعني الأضداد ، وأصل الكلمة من الفعل ند ندودا أو ندادا ، نقول ند البعير أي نفر وذهب على وجهه شاردا ، وفي قراءة بعضهم لقوله تعالى : ( يوم التناد ( أي يوم الشرود والهرب في جموح ، ومنه التنديد من الفعل ندد أي أظهر العيب في تشهير وافتضاح والله سبحانه يحذر الناس أن يتخذوا من دونه شركاء عدلاء يجعلون لهم من الحظ في الخوف والتقديس والانقياد مثلما يجعلونه لله سبحانه ، وذلك هو الإشراك المستشبع الذي تدنو دونه كل خطيئة أو محظور ، على أن الإشراك ضروب شتى تورد الإنسان المشرك موارد الكفران الذي يفضي إلى غضب الله والنار . كأن يتجه الإنسان بحسه وهواه صوب آلهة مصطنعة لا تملك شيئا من ضر أو نفع ، ولا تملك أن تغير من مقادير الله أدنى تغيير ، ولكنه الوهم الفاسد المريب الذي يمس طبائع جانفة مريضة فيزين لها أن تتثبت بهذه الآلهة المختلفة الموهومة .

ومن ضروب الإشراك أن تخشع القلوب للأصنام في انقياد مضلل فاسد ، كالذي كان عليه الناس في الأزمنة الغابرة ، إذ كانوا يخرون للأصنام ساجدين وهي أصنام يصطنعونها من الحجر أو المدر أو التمر على شواكل مختلفة من هيئة الإنسان أو الطير أو الحيوان ، وفي طليعة ذلك اللات والعزى ومناة ثم هبل وأسماء غير ذلك مما يفتعل أولئك في سفاهة وعمه ، ومن ضروب الشرك كذلك أن ينصاع الإنسان في شعوره ووجدانه وفي تفكيره وجوارحه لأمر الحكام والساسة الذين يقضون بالباطل وبغير ما أنزل الله ، فهم بذلك يضادون الله ويستنكفون عما أنزل من كتاب ودين ، وأمثال هؤلاء الحكام والساسة إنما يقفون في غاية الضلال والجريمة التي تتجسد في الافتتات على سلطان الله والاعتداء على جلاله وجنابه العظيمين وذلك بانتحال الخصائص الأساسية الكبرى كالمعبودية أو الملكوت أو التشريع وهي خصائص كبريات لا تتسنى لأحد من الخليقة كائنا من كان ، وما انتحالها أو جزء منها إلا التعدي الصارخ المستكبر على الله في عليائه .

وعلى ذلك فإن اللحاق بمثل هؤلاء الحكام والساسة الذين يضادون الله لهو ضرب مستبين من ضروب الشرك الذيب تنشغل القلوب والأهواء لتسير في غير صراط الله ، والذي يتثبت الطبع من خلاله بهؤلاء الفساق ليتلهى في خضم الرغائب والشهوات فيسدر مع السادرين إلى حيث السقوط في الأذلين .

ومن أحسن ما روي عن حبر هذه الأمة وإمام المفسرين عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) في هذا الصدد وهو أن الأنداد تعني الشرك وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان .

وقد ورد في الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت فقال له النبي : " أجعلتني لله ندا ؟   ! " .

قوله : ( وأنتم تعلمون ( الواو للحال ، والضمير في محل رفع مبتدأ والميم للجمع ، ( تعلمون( جملة فعلية في محل رفع خبر ، والجملة الاسمية المبتدأ والخبر في محل نصب حال .

وهذا الجزء من الآية خطاب للكافرين والمنافقين الذين يتخذون أندادا من دون الله ، مع أنهم يعلمون في قرارة صدورهم وفي العميق من نفوسهم أنهم ليسوا على شيء إلا الضلال والباطل ، وأنهم ناكبون عن الطريق المستقيمة ، عن صراط الله الذي لا يخالطه أمت أو اعوجاج ، وأنهم يعلمون أن هذا النبي صادق في تبليغه عن ربه وأن شريعة الإسلام لهي الحق المبين .

إن هذا الجزء من الآية خطاب جدير به أن ينفذ إلى قلوب المشركين وأذهانهم أولئك الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى وهو في نفاذه إليها يقرعها في مواجهة مكشوفة لا تعرف الموارية أو الميل كما يعلم هؤلاء الكذناكبون أنهم متعصبون وأنهم مفترون عسى أن تتململ فيهم بقية من وازع أو فطرة . {[25]}


[25]:تفسير القرطبي جـ 1 ص 204-230 وتفسير البيضاوي ص 11-15 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 45-58 وفي ظلال القرآن لسيد قطب جـ 1 ص 44-54 ومختار الصحاح ص 652، والقاموس المحيط جـ 1 ص 353.