الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

قوله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ } : " الذي " تحتملُ النصبَ والرفعَ . فالنصبُ من خمسةِ أوجهٍ ، أظهرُها : أن يكونَ نصبُه على القطع . الثاني : أنه نعتٌ لربكم . الثالث : أنه بدلٌ منه . الرابع : أنه مفعول " تتقون " وبه بدأ أبو البقاء . الخامس : أنه نعتُ النعت أي : الموصولُ الأول ، لكن المختارَ أن النعتَ لا يُنْعَتُ/ بل إنْ جاء ما يُوهم ذلك جُعِلَ نعتاً للأول ، إلا أَنْ يمنَع مانعٌ فيكونَ نعتاً للنعت نحو قولهم : " يا أيُّها الفارسُ ذو الجُمَّة " ، فذو الجُمَّة نعتٌ للفارس لا ل " أيّ " لأنها لا تُنْعَتُ إلاَّ بما تقدَّم ذِكْرُه . والرفعُ من وجهين : أحدهما وهو الأصح أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو الذي جَعَلَ . والثاني أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه بعد ذلك : " فلا تَجْعَلُوا " ، وهذا فيه نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنَّ صلتَه ماضِيةٌ فلم يُشْبِهِ الشرطَ فلا تُزَادُ في خبرِهِ الفاءُ ، الثاني : عدمُ الرابط إلا أن يقالَ بمذهبِ الأَخفش وهو أَنْ يُجْعَلَ الربطُ مكرَّرَ الاسم الظاهر إذا كان بمعناه نحو : " زيدٌ قام أبو عبد الله " ، إذا كان أبو عبد الله كنيةً لزيد ، وكذلك هنا أقامَ الجلالة مُقامَ الضميرِ كأنه قال : الذي جعل لكم فلا تَجْعلوا له أنداداً .

و " جَعَل " فيها وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لمفعولين فيكونُ " الأرضُ " مفعولاً أولَ ، و " فراشاً " مفعولاً ثانياً . الثاني : أن تكونَ بمعنى " خَلَقَ " فتتعدَّى لواحد وهو " الأرضَ " ويكونُ " فراشاً " حالاً .

" وَالسَّمَاءَ بِنَآءً " عطف على " الأرض فراشاً " على التقديرين المتقددِّمين ، و " لكم " متعلِّق بالجَعْل أي لأجلكم . والفراشُ ما يُوْطَأُ ويُقْعَدُ عليه . والبِنَاءُ مصدرُ بَنَيْتُ ، وإنما قُلِبت الياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ ، وقد يُرادُ به المفعولُ . و " أَنْزل " عطفٌ على " جَعَلَ " ، و " من السماء " متعلِّقٌ به ، وهي لابتداءِ الغاية . ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن يكونَ حالاً مِنْ " ما " لأنَّ صفة النكرة إذا قُدِّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً ، وحينئذٍ معناها التبعيضُ ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من مِياه السماءِ ماءً .

وأصل ماء مَوَه بدليل قولهم : " ماهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوه " وفي جَمْعه : مياه وأَمْواه ، وفي تصغيرِه : مُوَيْه ، فتحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها فقُلبت ألفاً ، فاجتمع حرفان خَفِيَّان : الألفُ والهاءُ ، فَأَبْدَلوا من الهاءِ أختَها وهي الهمزةُ لأنها أَجْلَدُ منها .

وقوله : " فَأَخْرَجَ " عطفٌ على " أَنْزَل " مُرَتَّبٌ عليه ، و " به " متعلِّقٌ بِه ، والباءُ فيه للسببية . و " من الثمرات " متعلقٌ به أيضاً ، ومِنْ هنا للتبعيضِ .

وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها زائدةً لوجهين ، أحدُهما : زيادتُها في الواجبِ ، وكَونُ المجرور بها معرفةً ، وهذا لا يقولُ به بصريٌّ ولا كوفيٌّ إلا أبا الحسن الأخفش . والثاني : أن يكونَ جميعُ الثمراتِ رزقاً لنا ، وهذا يخالف الواقعَ ، إذ كثيرٌ من الثمرات ليس رزقاً . وجعلها الزمخشري لبيانِ الجنسِ ، وفيه نظرٌ ، إذ لم يتقدَّمْ ما يُبَيِّنُ هذا ، وكأنه يعني أنه بيانٌ لرزقاً من حيث المعنى ، و " رزقاً " ظاهرُه أنه مفعولٌ به ، ناصبُه " أَخْرَجَ " . ويجوز أن يكونَ " من الثمرات " في موضع المفعول به ، والتقديرُ : فأخرجَ ببعض الماء بعضَ الثمرات . وفي " رزقاً " حينئذ وجهان أحدُهما : أن يكونَ حالاً على أنَّ الرزقَ بمعنى المرزوقِ ، كالطِّحْنِ والرِّعْي . والثاني : أن يكونَ مصدراً مَنْصُوباً على المفعولِ مِنْ أجلِه ، وفيه شروطُ النصبِ موجودةٌ . وإنما نَكَّر " ماء " و " رزقاً " ليفيدَ التبعيضَ ، لأنَّ المعنى : وأنزل من السماءِ بعض ماءٍ فَاَخْرَجَ به بعضَ الثمراتِ بعضَ رزقٍ لكم ، إذ ليس جميعُ رزقِهم هو بعضَ الثمراتِ ، إنَّما ذلك بعضُ رزقِهم .

وأجاز أبو البقاء أن يكونَ " من الثمراتِ " حالاً مِنْ " رزقاً " لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً ، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وجعلَ الزمخشري " من الثمرات " واقعاً موقعَ الثمر أو الثمار ، يَعْني مِمَّا نابَ جمعُ قلةٍ عن جمعِ الكثرة ، نحو : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] و { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] . ولا حاجةَ تدعو إلى هذا لأنَّ جَمْعَ السلامةِ المحلَّى بأَلْ التي للعمومِ يقعُ للكثرةِ ، فلا فرقَ إذاً بين الثمراتِ والثمار ، ولذلكَ ردَّ المحققونَ قولَ مَنْ ردَّ على حسان بن ثابت رضي الله عنه :

لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحى *** وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَما

قالوا : كان ينبغي أن يقولَ : الجِفان : وسيوفُنا ، لأنه أمدحُ ، وليس بصحيحٍ لما ذَكَرْتُ لك .

و " لكم " يَحْتملُ التعلُّقَ ب " أَخْرَج " ، ويَحْتملُ التعلُّقَ بمحذوفٍ ، على أن يكونَ صفةً ل " رِزْقاً " ، هذا إنْ أريد بالرزقِ المرزوقُ ، وإنْ أُريد به المصدرُ فيحتملُ أن تكونَ الكافُ في " لكم " مفعولاً بالمصدرِ واللامُ مقويةً له ، نحو : " ضربت ابني تأديباً له " أي : تأديبَه .

قولُه تعالى : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } الفاءُ للتسبُّب ، تَسَبَّبَ عن إيجادِ هذه الآياتِ الباهرة النهيُ عن اتخاذِكم الأندادَ . و " لا " ناهية و " تَجْعلوا " مجزومٌ بها ، علامةُ جَزْمِه حَذْفُ النونِ ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّروا . وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ بمعنى تُسَمُّوا . وعلى القولين فيتعدَّى لاثنين أولُهما : أنداداً ، وثانيهما : الجارُّ والمجرورُ قبلَه ، وهو واجبُ التقديمِ . و " أنداداً " جمع نِدّ ، وقال أبو البقاء : " أَنْدَاداً جمعُ نِد ونَديد " وفي جَعْلَه جمعَ نديد نظرٌ ، لأن أَفْعالاً لا يُحْفظ في فَعيل بمعنى فاعل ، نحو : شَريف وأَشَرْاف ولا يُقاسُ عليه .

والنِّدُّ : المقاوِمُ المضاهي ، سواء كان [ مثلاً ] أو ضِدَّاً أو خلافاً وقيل : هو/ الضدُّ عن أبي عبيدة ، وقيل : الكُفْء والمِثْل ، قال حسان :

أَتَهْجُوه ولستَ له بِنِدٍّ *** فشرُّكما لخيركما الفِداءُ

أي : لستَ له بكُفْءٍ ، وقد رُوِي ذلك ، وقال آخر :

نَحْمَدُ الله ولا نِدَّ له *** عندَه الخيرُ وما شاءَ فَعَلْ

وقال الزمخشري : " النِّدُ المِثْل ، ولا يُقال إلا للنِّدِّ المخالف ، قال جرير :

أَتَيْماً تَجْعَلونَ إليَّ نِدَّاً *** وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نَدِيدُ

ونادَدْتُ الرجلَ خالَفْتُه ونافَرْتُه مِنْ : نَدَّ يَنِدُّ نُدُوداً أي نَفَر " . انتهى ، ويقال " نَديدة " على المبالغة ، قال لبيد :

لِكيلا يكونَ السَّنْدَرِيُّ نديدتي *** وأَجْعَلُ أَقْواماً عُموماً عَماعِمَا

وأمَّا النَّدُّ بفتح النون فهو التل المرتفعُ ، والنَّدُّ الطِّيب أيضاً ، ليس بعربي . وهذه الجملةُ متعلقةٌ من حيث المعنى بقوله : " اعبدُوا " ، لأنَّ أصلَ العبادةِ التوحيدُ ، ويجوز أن يتعلَّقَ ب " الذي " إذا جعلتَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآياتِ العظيمةَ والدلائلَ النَّيِّرة الشاهدَةَ بالوَحْدانية فلا تَجْعلوا له أنداداً .

وقال الزمخشري : " يتعلَّق ب " لعلَّكم " على أن ينتصِبَ " تجعلوا " انتصابَ { فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 37 ] في قراءةِ حَفْص ، أي : خلقكم لكي تَتَّقوا وتخافوا عقابَه فلا تُشَبِّهوه بخَلْقه ، فعلى قولِه : تكون " لا " نافيةً ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ " في جوابِ الترجِّي ، وهذا لا يُجيزه البصريون ، وسيأتي تأويلُ " فأطَّلِع " ونظائِرِه في موضعِه إنْ شاء الله تعالى .

قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب على الحال ، ومفعولُ العِلْم متروكٌ لأنَّ المعنى : وأنتم من أهلِ العِلم ، أو حُذِف اختصاراً أي : وأنتم تعلمونَ بُطْلانَ ذلك . والاسمُ من " أنتم " قيلَ : أَنْ ، والتاءُ حرفُ خطاب يتغيَّرُ بحَسبِ المخاطب . وقيل : بل التاءُ هي الاسمُ وأَنْ عمادٌ قبلها . وقيل : بل هو ضميرٌ برُمَّتِه وهو ضميرُ رفعٍ منفصلٌ ، وحكمُ ميمِه بالنسبة إلى السكونِ والحركةِ والإِشباعِ والاختلاسِ حكمُ ميم هم ، وقد تقدَّم جميعُ ذلكَ .